مقالات

محطّات شعبوية

يجتمع أطباء أردنيون في أميركا، وهم من نخبة الأجيال الأردنية المتفوّقة التي حققت نجاحا على مستوى الولايات المتحدة، سواء في الدراسة في جامعاتها أو مزاولة المهنة في مستشفياتها. ليست هذه الثلة أكثر من عصابة مافيا التقت سرّا في قبو، وقرّرت اختراق المستشفيات الأردنية، وتوجيه “ضربةٍ قاصمة” للقطاع الطبي الأردني. الضربة القاصمة، على حد وصف وزير صحة أردني، هي تعديل تشريعي يعفي الطبيب الذي حصل على اختصاص في أميركا من امتحان الاختصاص في الأردن، أسوةً بدول كثيرة، منها الصين المنافس الأكبر لأميركا، ‏ودولة الكيان الصهيوني التي لا تفرّط بصحة مواطنيها، وبريطانيا. حتى الولايات المتحدة نفسها، والتي يدرّس في جامعة هارفارد فيها طبيبٌ حصل على اختصاص أردني، لم تشترط عليه الحصول على اختصاص الأميركي. أما في الأردن العظيم، العصيّ على المؤامرات، لا بد للطبيب الذي يتخصّص في أميركا من إعادة الامتحان في الأردن، وعلى يد طبيبٍ لم يقرأ أبحاثه التي نشرها في كبريات المجلات العلمية المتخصّصة.
تريد الدولة الاستفادة من الخبرات الطبية الأردنية في أميركا وبريطانيا وألمانيا. وزير الصحة متحمّس للفكرة، ولكنه يواجه حملةً من متنفّذين يريدون إبقاء سيطرتهم على القطاع الطبي. قد تنجح الحملة الغوغائية في إبعاد هذه الكفاءات فتبقى في أميركا. المستفيد هو المواطن الأميركي، المتضرّر هو المواطن الأردني. ليس الضرر على جيبه، وإنما على صحته. سنفقد أرواح أعزّاء، لعدم وجود أطباء أكفاء قادرين على علاجهم… هنا تضرّ الشعبوية في صحّة الناس واقتصاد بلد.
المحطّة الثانية في أميركا، التأثير المدمّر للشعبوية، بصيغتها الترامبية على الديمقراطية الأميركية، واضحٌ جدا، ففي جديد صرعاته أخيرا، تبيّن أنه أخذ إلى بيته وثائق بالغة السرّية من البيت الأبيض، مخالفا قوانين تشترط إيداع كل الوثائق، بما فيها “خربشاته” الشخصية في الأرشيف الوطني، فهو عندما كان في البيت الأبيض شخصية عامة مملوكة للشعب الأميركي، وخاضع في كل حركاته وسكناته لمحاسبته. مقابل ذلك، يمتلك حصانة وسلطة واسعة. مع ذلك، تؤيّده شريحة واسعة في الحزب الجمهوري. وفي الترشيحات أخيرا، فاز مناصروه الذين يؤمنون بتزوير الانتخابات، وخسر من تصدّوا له من أمثال ليز تشيني. يحدُث هذا على رغم ارتفاع مستوى التعليم في أميركا ووجود أفضل جامعات العالم فيها، وأفضل صناعة الإعلام والثقافة القادرة على إيصال المعلومات والحقائق إلى الجمهور، ومحاصرته في منصّات التواصل الاجتماعي.
‏وفي تونس، انتهت الديمقراطية الناشئة بالضربة القاضية على يد مدرّس جامعي مغمور محدود الإمكانات، أنهى التجربة الديمقراطية الوحيدة في العالم العربي. في اليوم الأول من نفاذ دستوره، تحكم محكمة عسكرية على صحافي بالسجن، وتمنع وزيرة العدل القضاة الذين طردهم من العودة إلى مكاتبهم، بعد أن أعادهم القضاء. دستور أقرب إلى نصّ من الكوميديا السوداء، انقلابي يصوغ الدستور بنفسه، ويعدّله بعد طرحه مليئا بالأخطاء اللغوية والقانونية، ويطرح للتصويت فتقاطع الأكثرية الساحقة التصويت 75%. ورغم الملاحظات المتعلقة بنزاهة التصويت، يقرّ الدستور، ويهنئه عليه الرئيس الفرنسي. شريحة واسعة من التونسيين ترى في قيس سعيّد، بعد كل ما فعله من تدمير المؤسسة الديمقراطية واحتكار كل السلطات، بما فيها القضائية، ترى في هذا الزعيم الشعبوي، مخلّصا من الطغمة الفاسده التي حكمت تونس خلال “العشرية السوداء”، علما أن هذه العشرية هي التي ‏نقلته من الجامعة إلى رئاسة الدولة. نسي في دستوره تخصيص مادة للسيدة الأولى، زوجته التي تقدّمت على رئيسة الحكومة وهنأته بالدستور الجديد. وبكل وقاحة، يصطحب أسرة فقيرة إلى قصر قرطاج، وهو الذي وسّع دائرة الفقر بشكلٍ لم تشهده تونس في تاريخها. فوق ذلك، تكلف زياراته أحياء الفقر والصلاة في المساجد الحرس الرئاسي مبالغ هائلة يمكن توفيرها للفقراء.
أضرّت الشعبوية بالقضية الفلسطينية وخدمت الصهيونية، تدلّ على ذلك المواجهة في غزّة أخيرا، فلم يشفع لحركة حماس ما قدّمته من شهداء وأسرى من قادتها وأبنائها، صارت سلطةً عميلة للاحتلال، لأنها لم تزجّ نفسها في مواجهةٍ غير متكافئة وغير مستعدّة لها خدمة للحسابات الانتخابية للحكومة الصهيونية. ‏أن تكون جاهلا في تاريخ الصراع العربي ــ الإسرائيلي تماما كجهلك بواقعه، فضلا عن أن تكون مقصّرا مقارنة بمن يبذلون النفس والنفيس. هذا وغيره لا يعفيك من أن تكتب منشورا تخوّن فيه وتغمز وتلمز مرتقبا إلى مقامات الشهداء، بمجرّد امتلاكك حسابا على منصات التواصل. ثبت أن جزءا كبيرا من تلك الحسابات يعود للموساد، هنا بعيدا عن الشعبوية، تصحّ نظرية المؤامرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *