مذ على الاستفادة من أخطاء الماضي، وتجنيب البلاد خياراً فاشلاً آخر، من شأنه أن يفاقم الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وربما يقود إلى المجهول.
وقام سعيّد، صباح أول من أمس الجمعة، بمراسلة الأحزاب السياسية والائتلافات والكتل البرلمانية لتقديم مقترحاتهم ومرشحيهم حول الشخصية التي سيتم تكليفها بتشكيل الحكومة الجديدة، في أَجَلٍ لا يتجاوز يوم الخميس المقبل، في 23 يوليو/تموز الحالي. وكان رئيس الجمهورية قد راسل البرلمان قبل ذلك لإبلاغه بقبوله استقالة الفخفاخ، ومطالبة السلطة التشريعية بتحديد توزيع الكتل النيابية، وهي إجراءات تمهد لاختيار الشخصية الأقدر من قِبله، كما ينصّ على ذلك الدستور في حالة استقالة رئيس الحكومة. وسيكون على الرئيس أن يختار شخصية من بين الشخصيات المقترحة أو غيرها، في أجل لا يتجاوز 10 أيام من تاريخ الاستقالة، ثم يمنحها شهراً لتشكيل الحكومة وعرضها على البرلمان لنيل ثقته. وتُذكّر هذه التفاصيل بما حدث منذ سبعة أشهر تقريباً، عندما فشلت حركة “النهضة” في إنجاح حكومة الحبيب الجملي، لتؤول الأمور حينها إلى سعيّد.
أثبتت التجربة التونسية أن الرئيس لا يأخذ المشاورات بعين الاعتبار في اختياره لرئيس الحكومة
من جهته، وجّه ائتلاف “الكرامة” رسالةً رسمية إلى رئيس الجمهورية، ليبلغه اعتراضه على طريقة “المشاورات” عن بُعد، وبواسطة الرسائل، والتي أثبتت التجربة أن الرئيس لا يأخذها بعين الاعتبار في اختياره. وعبّر الائتلاف عن استعداده للمشاركة في مشاورات حقيقية ومباشرة، تجمع على طاولة واحدة أهم الكتل البرلمانية الراغبة في أن تكون ممثلة في الحكومة المقبلة.
ويستعيد التونسيون سيناريو فبراير/شباط الماضي، عندما أكد سعيّد أنه “إذا لم تحصل الحكومة التي سيتم تقديمها إلى البرلمان على الثقة، فسيتم حلّ البرلمان واللجوء إلى الشعب، فهو صاحب السيادة، يمنحها لمن يشاء ويسحبها ممن يشاء، وله الكلمة الفصل”، داعياً الجميع إلى “تحمل المسؤولية في هذه المرحلة التاريخية الحاسمة المليئة بالتحديات”. ويشبه الوضع اليوم ذلك السيناريو غير البعيد، فالتهديد نفسه يظلّ قائماً، وهو يطاول كل الأحزاب المتناحرة، والتي لا ترغب جميعها في حصول انتخابات مبكرة، لكنها تتمسك في الوقت بالخيارات والمواقف نفسها، وربما سيكون حكماً عليها أن تقبل بمن سيختاره الرئيس، مثلما حدث مع الفخفاخ، خوفاً من شبح حلّ البرلمان.طاقة
تونس: معتصمو “الكامور” يغلقون وحدة ضخ البترول وشلل تام في تطاوين
لكن الرئيس في المقابل، لحقته أيضاً شظايا اختيار الفخفاخ، ويتحمّل في هذه الأزمة جزءاً من المسؤولية، وهو ما قد يفرض عليه إعادة النظر في أسلوب تشاوره مع الأحزاب، وفي أسس وملامح الشخصية القادرة بالفعل على إدارة أزمة معقدة، وعليه أن يخرج من المنطقة القانونية والمؤسساتية الآمنة، نسبياً، إلى ممارسة دور سياسي أكثر فاعلية. بينما يرى البعض أن أزمة الفخفاخ بالذات ستدفع سعيّد أكثر إلى محاولة النأي بنفسه عن المشاكل، واعتماد ترشيحات الأحزاب، حتى يتبرأ من المسؤولية الصعبة، على الرغم من أنه لن يتنصل من المسؤولية في كل الحالات.
ويدرك الرئيس أن اختيار شخصية لرئاسة الحكومة لن يكون أمراً يسيراً، إذ ينبغي على هذه الشخصية أن تنجح أساساً في توليفة سياسية تدوم في الزمن ولا تتوقف بعد بضعة أشهر، وهنا بالذات ينبغي فهم ماذا يريد سعيّد بالفعل، وما هي استنتاجاته بخصوص أزمة الفخفاخ، وتصوراته لما بعدها.
فرضيات كثيرة تطرح في هذا الخصوص، أولها معرفة ما إذا كان الرئيس التونسي راغباً فعلاً بنجاح الحكومة المقبلة في المرور أمام البرلمان، أم يفضّل سقوطها حتى يتمكن من الذهاب إلى حلّ السلطة التشريعية وإفراز مشهد جديد يكون أكثر تناغماً ويمكن التعامل معه خلال ولايته الرئاسية المتبقية. أما السؤال الثاني، فيرتبط بتصوراته حول شكل الحكومة، وما إذا كان الرئيس يريدها كما ترغب بها حركة “النهضة”، مع “قلب تونس” وائتلاف “الكرامة” ومن قد يلحق بهم، أم أن تتكون من “التيار الديمقراطي” و”الشعب” و”تحيا تونس” و”كتلة الإصلاح” ومن ينضم إليهم، باستثناء “النهضة”.
الوزير عن “التيار الديمقراطي”، غازي الشواشي، قال الجمعة، إن تجربة الحكم مع “النهضة” كانت “فاشلة”، مشيراً إلى أن “الحكومة الجديدة ستكون إما حكومة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة، وإما حكومة التيار وتحيا تونس وحركة الشعب وكتل أخرى”. وردّ المتحدث باسم “النهضة”، عماد الخميري، عليه، واصفاً تصريحات الأخير بـ”عملية انقلابية على الديمقراطية”.
من جهتها، أكدت القيادية والنائبة عن “النهضة”، يمينة الزغلامي، في تصريح لـ”العربي الجديد”، أن اتجاه الحركة في مشاوراتها حول الحكومة الجديدة واضحٌ في قرار سيادي مع شركائها الذين وقّعوا معها على لائحة اللوم لسحب الثقة من الفخفاخ (“ائتلاف الكرامة” و”قلب تونس”)، مشددة على أنه ستكون هناك شراكة لـ”النهضة” بكل وضوح وفوق الطاولة. ورأت في هذا الإطار، أن الحركة أصبح لديها يقين اليوم، بأنه لا يمكن أن تكون هناك حكومة من دون وجود توافق بين الحزبين الأول والثاني في البرلمان (أي “النهضة” و”قلب تونس”).
تستبعد “النهضة” حصول توافق حكومي مستقبلاً مع “التيار الديمقراطي” و”الشعب”، وتؤكد عزمها الشراكة مع “قلب تونس”
واستبعدت الزغلامي أن يحصل توافق حكومي مستقبلاً مع “التيار الديمقراطي” و”الشعب”، لأن جميع المؤشرات والأحداث السابقة عكس ذلك، معتبرة أن “أقنعة الانتماء لخطّ الثورة سقطت عن هذين الحزبين، فهما بصدد إدخال البلاد في خانة المزايدات وإرباك الانتقال الديمقراطي”، مذكرة “بطرحهما مسألة مساءلة رئيس البرلمان سابقاً، ومساندتهما لائحة أساءت لدول شقيقة ولصورة البرلمان”. ولفتت كذلك إلى “صعوبة تمرير القوانين من دون قلب تونس وائتلاف الكرامة” على حدّ قولها.
وتقود هذه التصريحات إلى التأكيد أن مختلف السيناريوهات مطروحةٌ بالفعل في أذهان البعض، على الرغم من عدم واقعيتها، فلا “النهضة” ولا “قلب تونس” ولا “الكرامة” قادرة لوحدها على تشكيل حكومة قوية، ولا أحزاب “التيار” و”الشعب” و”تحيا تونس” قادرة على فعل ذلك، ما سيُصعّب العملية على سعيّد وعلى أي شخصية يختارها. ويعني ذلك أنه لن يكون هناك حل، إلا بحدوث توافق على الحد أدنى بين بعض المكونات من هذا المعسكر وذاك.
لكن الوصول إلى هذا الحلّ يفترض استعداد سعيّد للعب هذا الدور أم لا، ويستوجب بالضرورة إذابة الجليد بينه وبين رئيس “النهضة” راشد الغنوشي، ما سيمهد الطريق نحو تفاهمات تحد من منسوب التوتر في البلاد، وتقود إلى الاتفاق على أولويات تحتاجها تونس في ظروفها الصعبة، الداخلية والإقليمية.
وحذّر الأمين العام لـ”الحزب الجمهوري”، عصام الشابي، في تدوينة على صفحته عبر موقع “فيسبوك”، من “انقسام الدولة”، داعياً رئيس الجمهورية، “رأس الدولة ورمز وحدتها، إلى أن يلزم رئيس حكومة تسيير الأعمال، الفخفاخ، بالكفّ عن كلّ تعيين او إعفاء من المسؤوليات في هذه المرحلة”. ودعا الشابي كذلك “رئيس البرلمان ومكتبه وكتلته الرئيسية إلى التقيد بأحكام الدستور، والكفّ عن كل محاولةٍ لتمرير لائحة اللوم التي أصبحت غير ذي موضوع بعد استقالة الحكومة ومباشرة رئيس الجمهورية للإجراءات الدستورية التي يقتضيها الوضع”. وحذّر الأمين العام للحزب الجمهوري أخيراً من “محاولات البعض دفع الأمور إلى نقطة اللاعودة”.
من جهته، قال المتحدث باسم “النهضة”، عماد الخميري، في تصريح إذاعي، إن “الحركة لا تريد الدخول في مسارات فيها تأويل للدستور خلال مرحلة ما بعد حكومة الفخفاخ، وستذهب مع ما تقرّره مؤسسة رئاسة الجمهورية في هذا الخصوص”. هذا التصريح يشكل إعلان نوايا جيدا ينبغي أن تتبعه خطوات أخرى، تؤكد مصادر حزبية لـ”العربي الجديد” أنها موجودة بالفعل، و”إذا نجحت فقد تغير العلاقة بين سعيّد والغنوشي والمشهد السياسي في تونس، إذا لم تشوش عليها ذبذبات حزبية لا تتمنى تحسين العلاقة بين الرجلين”.موقف
هل تريد التعليق؟