يبدو أن الواقع البائس أصاب كثيرين بالـ”نستالجيا”؛ أي الحنين المرضي إلى الماضي، بحيث يتفوق على الحاضر والمستقبل. وفي ظلال الأحداث الدامية في جامعة الحسين في معان، يلمع في سماء الذاكرة ما عرف بأحداث جامعة اليرموك في 15 أيار (مايو) 1986، والتي مثلت نقطة مضيئة في تاريخ الحركة الطلابية والسياسية في البلاد، وحضّرت الأجواء لتحول ديمقراطي في العام 1989.
لا يمكن هنا أن أفصل الشخصي عن العام؛ فقد دخلت “اليرموك” مباشرة بعد أحداث الصيف، وكانت الدماء ما تزال ساخنة؛ إذ استشهد ثلاثة هم إبراهيم حميدان العجارمة، مروى طاهر الشيخ، ومها محمد قاسم.
ورغم المجد الذي حققه الإخوان المسلمون في تلك الأحداث، إلا أن التنظيم كان قد فرط بفعل الضربة الأمنية. وخلافا لأجواء العمل الجماهيري في الأحداث، تحول التنظيم إلى السرية. وكانت مهمتنا إعادة بناء التنظيم في أجواء بالغة الصعوبة. بين الإخوان المكشوفين الذين جرى الاعتراف عليهم، وبين غيرهم، العمل الجماهيري الوحيد الذي طلب مني كان توزيع منشورات في ذكرى الأحداث.
في أجواء الإخوان كان قد حدث انقلاب فكري وسياسي. فقد خلقت الثورة الطلابية شراكة سياسية بين القوى السياسية كافة؛ من الشيوعي رمزي الخب إلى الإخواني سعد الطاهر وما بينهما، على قاعدة قضايا مطلبية عادلة، تتعلق بتعسف في فصل الطلبة، والمعدل التراكمي، ورسوم التدريب.
كنت قد التقيت سعد بعد خروجه من الاعتقال، مع محمد حياصات رحمه الله، واللذين جمعتهما كلية الهندسة والإخوان؛ واحد من نابلس والآخر سلطي يسكن جبل الحسين قرب مسجد الحسين الغربي. كنت أمني النفس بلقائه بعد أن تحول إلى زعيم طلابي أسطوري. في اللقاء كان منكسرا بعد الاعترافات التي انتزعت منه تحت التعذيب.
أمضيت سنوات الجامعة في إطار إخواني. كان معنا عباس السيد في كلية الهندسة، الذي يمضي حكما بالسجن 35 مؤبدا على خلفية قيادته لكتائب القسام في الضفة الغربية. في إطار الأخوة انصهرنا من بيئات مختلفة التنوع في إطار التنظيم الحديدي. حتى خلافاتنا كانت بين الاعتدال والتشدد في إطار الحركة الإسلامية. لكن كان التنافس في الجامعة سياسيا. ومع التحول الديمقراطي العام 1989، استعادت الجامعة دورها الجماهيري، وانفتح التنظيم على عالم آخر.
أذكر أول لحظة عنف جامعي كانت مع بداية عمل مجلس النواب، وساهم في التحقيق فيها. يومها، أقام الطلبة اليساريون معرضا للتراث الفلسطيني دعما للانتفاضة، وهاجمهم الطلبة المحسوبون على الأمن، وقاموا بالاعتداء على الطلبة وتحطيم محتويات المعرض. ويومها، تقدمت بالشهادة ضد المعتدين في لجنة التحقيق. ولم تتكرر الحادثة بعدها؛ فقد انشغل الطلبة بدعم العراق في الحرب ضد أميركا، ودعم الانتفاضة، وتأسيس الاتحاد العام لطلبة الأردن.
بعد كل هذه السنوات، لم يحاسب من قمع الحركة الطلابية، مع أن لجنة التحقيق الملكية أنصفت الطلبة وأدانتهم. ولم نسمع من أي منهم مراجعة لتلك المرحلة أو اعتذارا. والرموز الطلابية من مختلف القوى السياسية التي قادت الحركة الطلابية توارت عن المشهد، وصار العنف سيد المشهد في الجامعات؛ عنف عبثي بلا هدف.
لا داعي لبحث الدروس المستفادة، ونكتفي بالترحم على أرواح شهداء الحركة الطلابية، والحنين إلى زمن جميل.
هل تريد التعليق؟