لا تزيد الممارسات القمعية أنصار التيار الجهادي إلا إصرارا وتماديا. في المقابل، فإن أجواء الحرية والحوار كفيلة بنقلهم إلى مربع العمل السلمي. تشترك في ذلك قيادات تاريخية مثل أسامة بن لادن زعيم “القاعدة”، وعبود الزمر أحد قيادات الجهاد ومؤسسيها، وأصغر شاب متحمس.
الصورة الأخيرة التي ظهر فيها بن لادن في التسجيل الذي بث بعد مقتله كشفت أن الرجل تغير، فقد تأثر بالثورات العربية. في أول تعليق بعد ساعات من مقتله، قلت إن “القاعدة” انتهت بنجاح الثورة السلمية في تونس ومصر، ولاحظت غياب صدور تعليق من ابن لادن على تلك الثورات.
يستبعد أن يكون تأخر التعليق على الثورات عائدا لأسباب لوجستية، فالرجل لم يفقد القدرة على التواصل. الراجح أنه فوجئ بالثورات ونتائجها، وأخذ وقتا في تدبرها، ولم يتسرع بتأييدها ولا التنديد بها باعتبارها مؤامرة على الجهاد. وربما أن مسؤولي “القاعدة” تمهلوا في بث الرسالة التي تعبر عن تغير جوهري في فكر الرجل.
بالمحصلة، الرسالة تاريخية وتعبر عن تغير حقيقي وتحتاج تحليلا مفصلا. ما ينقصها، وربما تعرضت لتحرير واختصار من قبل الأنصار، الاعتراف بأخطاء وإعلان مراجعات جدية. ليس تخليا عن الجهاد، بل استقامة عليه. فالقعود والنكوص والهزيمة لا تقل سوءا عن التسرع والتهور والظلم. بن لادن تأثر وتطور وفق الظروف التي مر بها. في الجهاد الأفغاني كان جزءا من التيار الإسلامي العام، وكان العالم ينظر باحترام للمقاتلين في سبيل الحرية. وعندما اختلف مع حكومة بلاده بعد دخول القوات الأميركية، أسس هيئة “النصيحة والإصلاح” ولم يحمل السلاح على الدولة والمجتمع. حاول في السودان الانخراط في “المشروع الحضاري الإسلامي” من خلال العمل التنموي، ولم يتخل عن ذلك بل أجبر على مغادرة السودان ولم يجد بلدا يؤويه غير أفغانستان. وفي ظل الحصار والاستهداف والجو القتالي وصحبة الظواهري، تشكل فكر “القاعدة” بصورته التي أفرزت تفجيرات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر).
ابن لادن عاد في أيامه الأخيرة إلى مرحلة “النصح والإصلاح”، وسيطرت على قاموسه مفردات “النهوض” و”الثورة” و”التغيير”. وأي تحليل لنصوصه سيلاحظ أن تغيرا جوهريا حدث. “فبإسقاط الطاغية سقطت معاني الذلة والخنوع والخوف والإحجام ونهضت معاني الحرية والعزة والجرأة والإقدام فهبت رياح التغيير رغبة في التحرير وكان لتونس قصب السبق وبسرعة البرق أخذ فرسان الكنانة قبسا من أحرار تونس إلي ميدان التحرير، فانطلقت ثورة عظيمة وأي ثورة، ثورة مصيرية لمصر كلها وللأمة بأسرها أن اعتصمت بحبل ربها. ولم تكن هذه الثورة ثورة طعام وكساء وإنما ثورة عز وإباء، ثورة بذل وعطاء”. في كل الأمم والشعوب كان العنف سبيلا اضطراريا عندما تنسد سبل التغيير السلمي، ومن يعتقد أن شعوبا تحمل العنف جينيا فهو إما جاهل أو عنصري.
هل تريد التعليق؟