قد تكون مطالب النواب بربط الراتب التقاعدي بالتضخم، مطالب عادلة. لكنها قد تكون كارثية بحسابات الأرقام. والمسألة لا تخضع للشعبوية، بل لا بد أن تخضع لحسابات دقيقة من خبراء مشهود لهم بالعلم والاستقامة. فكثير من الاستشارات تكون مضللة؛ مبنية على جهل، أو على مصالح تتناقض مع مصلحة المواطن الأردني. وحتى اليوم، ومن تجربة مريرة، لا يثق المواطن بالمعلومات الصادرة عن الحكومة، أما مجلس النواب فالثقة فيه دون الثقة بالحكومة.وعليه، لا يمكن تشكيل رأي علمي دقيق من مؤسسة تحظى بالثقة، وتبقى المسألة مبنية على “التساهيل”، والثقة بأن الخلق في ذمة الخالق. ومثل الإنسان الذي يعيش في الغابات، يمكن تشكيل المعرفة بناء على المشاهدات الشخصية المباشرة. وعليه، فإنني أعرف عددا من المتقاعدين، لا يعتمدون على تقاعدهم مطلقا. ولو فعلوا ذلك، فقد يموتون جوعا.من أسرار الاقتصاد الأردني أن المتقاعد ليس كما في الغرب؛ فرد معزول وحده. المتقاعد، سواء كان أبا أم جدا أم أما، يحظى بعناية أفراد العائلة العاملين، وهم لا يقصرون في تلبية متطلباته الأساسية أو الترفيهية. والضمان الحقيقي هم الأولاد، سواء كانوا ذكورا أم إناثا. المفيد حقيقة من تقاعد الدولة هو التأمين الصحي، عسكريا أم مدنيا. وهو يعادل في الواقع أكثر بكثير من قيمة الراتب التقاعدي البائس.أما المتقاعدون حديثا، فلا أحد منهم متقاعد ويعتمد على تقاعده المرتفع قياسا على التقاعد القديم؛ جميعهم يعملون داخل البلد أو خارجه. والتقاعد هو وسيلة للضمان لدى البنوك لشراء شقة أو سيارة. وبعد الحصول عليه، تبدأ رحلة عمل جديدة مع القطاع الخاص أو الاغتراب.الأهم من ذلك أنه توجد حالات بلا تقاعد. أعرف سائق شاحنة عمل نحو أربعة عقود، ولم يكن في أيامه ضمان ولا تقاعد. لكنه، وهذا من أسرار الاقتصاد الأردني، يعيش حياة كريمة بين أبنائه الذين يتبارون في خدمته، فيعيش أفضل من أي متقاعد في السويد.بعيدا عن المشاهدات، ومما لا تورده الأرقام الرسمية وغير الرسمية، ويستحق الدراسة فعلا، هو أن المجتمع الأردني يحمل الدولة هذه الأيام، فانعكست الحال التي سادت خلال عقود خلت، عندما كانت الدولة تحمل المجتمع. ومفهوم التقاعد في بلادنا غيره في الغرب والدول الغنية. مفهوم التقاعد عندهم أنه مرحلة استجمام ورفاه، فيما عندنا لا يؤمن راتب التقاعد الحد الأدنى من ضرورات الحياة؛ باستثناء تقاعد النواب والأعيان والوزراء، ومن وازاهم في القضاء والجيش والأمن.النقاشات غير الصحية مضللة، والكلام المرسل عن ربط راتب التقاعد بالتضخم لا يفيد. على الحكومة أن تجري مسوحات دقيقة، وعلى مجلس النواب أن يكون شريكا في تلك المسوحات، لمعرفة واقع التقاعد الحقيقي؛ كيف يعيش الأردنيون بعد الستين أو بعد الأربعين، وكيف ينفقون، وما هي مصادر دخلهم. ربما تسهم هذه المعرفة في بناء قرارات صحيحة.يسجل للدكتور إبراهيم سيف أنه أنجز دراسة مهمة عن الطبقة الوسطى، أيام كان مركز الدراسات الاستراتيجية يقوم بدوره العلمي. وهو في الحكومة الحالية وزير للتخطيط، عليه مسؤولية أكبر للوصول إلى المعلومة، وإيصالها للمواطن. والمعلومة هي أساس أي نقاش صحي، يسهم فيه النواب والخبراء
الرئيسية » أسرار الاقتصاد الأردني
هل تريد التعليق؟