لولا أن الرئيس الأميركي الأسبق، بوش الأب، سمح باستخدام شبكة الإنترنت مدنيا بعد غزو العراق عام 1990، لما قامت الخلافة، وما بويع أبو عمر البغدادي خليفة، فتلك الخلافة لم يكن لها وجود على الأرض، كما كان للإمبراطوريات التي عرفها التاريخ، وآخرها بالنسبة للمسلمين الخلافة العثمانية. ظلت خارج العصر والجغرافيا مع احتفاظها بوجودها الافتراضي على الشبكة العنكبوتية. صحيحٌ أن أبو بكر البغدادي استولى على مساحاتٍ شاسعةٍ من أرض العراق والشام، وأقام إمارات حرب متناثرة، إلا أنه لم يستطع أن يقيم دولةً، ولو مثل إمارة طالبان في أفغانستان، قبل انهيارها على يد الجيش الأميركي، والتي كانت لها علاقاتٌ مع جيرانها ومع العالم، مع احتفاظها بنمط الحكم المتشدّد، مثل كوريا الشمالية وغيرها. أما خلافة البغدادي فكانت بعلاقات حرب مع المجتمعات المقيمة فيها، فضلا عن الجوار والعالم. وكانت ستتحول دولةً مثل كوريا الشمالية، لولا الحملة العسكرية المدمرة التي تعرّضت لها في تحالف دولي جوي، ومقاتلين على الأرض من الحشد الشعبي العراقي والجيش العراقي والأكراد. ومن رحمة الله بالمنطقة أنها لم تصل إلى ذلك. ولا يمكن تخيّل حجم الوحشية التي يمكن أن يمارسها التنظيم عندما يستقر دولةً تمتلك مقدّراتٍ مثل كوريا الشمالية.
الدولة الإسلامية في العراق، ثم في العراق والشام (داعش)، ثم الخلافة، ليست سوى تنظيم وحشي ما زلنا ندفع ثمن تشويهه الإسلام حتى بعد هزيمته. لم يكن مؤامرةً، هو نتاج تراكمات من الأخطاء تتحمّل مسؤولياتها دولنا ونخبنا ومجتمعاتنا، من دون إعفاء العوامل الخارجية من احتلال وهيمنة.
من المريح القول إن “داعش” صناعة أميركية، أو إيرانية، لكنه للأسف ليس كذلك، والذي قضى عليه هو تحالف أميركي إيراني بالأساس، ولولاهما لدخلت قوات تنظيم الدولة بغداد ودمشق. للتاريخ، لقد شنّت أميركا آلاف الغارات على التنظيم، وأشرف قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، على تدريب مليشيات الحشد الشعبي وقيادتها في العراق وسورية لمقاتلة التنظيم. لا يعني ذلك أن الاحتلال الأميركي للعراق، والممارسات الطائفية لإيران، وتدخلها في العراق وسورية، لم يلعبا دورا مهما في نشأة التنظيم.
لنفترض أن الربيع العراقي نجح عام 2011 في تحقيق أهدافه، وكذلك السوري، وقام لدينا نظامان في بغداد ودمشق مثل نظام تونس، هل كنّا سنشهد ميلاد “داعش”؟ قطعا لا. الوحشية والهمجية التي مارسها الحكم الطائفي في العراق وسورية انعكستا على سلوك المجتمعات. إضافة إلى هزيمة الربيع العربي في البلدين، وجدنا مقاتلين من حركة 6 إبريل في مصر انضمّوا له نتيجة الانقلاب العسكري في بلدهم ووحشيته. وأتاحت مقاومة الاحتلال الأميركي في العراق فرصا ذهبية للعسكرة والقتال والتمرّس في المواجهة والعمليات والتنظيم. وكانت السجون الأميركية أشبه بأكاديمياتٍ عسكرية للتنظيم.
قبل الخيبات السياسية والأمنية، ثمّة خيبة فكرية، لا تتحمّل مسؤوليتها أميركا، ولا الأنظمة. روّجت الحركات الإسلامية نظرية الخلافة المضللة. نجد كلاما شعريا عن استعادة الماضي التليد في أدبياتٍ منثورة، لا تصمد أمام نقد طالبٍ جامعي في سنة التخرّج. عندما تقرأ في كتاب “فقه الخلافة وتطورها إلى عصبة الأمم الشرقية” لعبد الرزاق السنهوري الذي نشر رسالة دكتوراه في فرنسا عام 1926، قبل تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، وتقرأ أدبيات الحركات الإسلامية، وخطابات البغدادي، تلاحظ حجم البؤس الفكري في أيامنا هذه.
قُتل أبو بكر البغدادي كما عاش، لكنه يبقى حيا، طالما غيّبنا العقل والفكر، واعتمدنا نظريات المؤامرة والأساطير. وطالما ظلت الثورة المضادة تصادر أشواق الشعوب في التحرّر. في اليوم الذي قتل فيه البغدادي، كانت تركيا تحتفل بذكرى استقلالها، أي نهاية الخلافة واقعيا وقيام الدولة التركية. ظل الخليفة عامين بعد استقلال تركيا لا يدري عنه أحد، لكنه لم يفجّر نفسه.
هل تريد التعليق؟