قبل ثلاثين عاما في 14-11-1977 توفي والدي علي أبوهلالة. كنت لا أزال طالبا في الرابع الابتدائي. ولم اكن لأستوعب فكرة الموت خصوصا عندما يأتي لشاب في الخامسة والثلاثين بدون مقدمات. ومن يومها أدركت أنه مسألة لا علاقة لها بالمنطق. ولا يملك الإنسان أمامها غير التسليم بقضاء الله وقدره.
لم يسبق أن كتبت عن والدي، بذريعة أن الكتابة شأن عام لا يجوز إقحام مسائل شخصية فيه، غير أن ما شجعني أن غيري كتب عنه في سنين خلت، الأستاذ يوسف العظم في جريدة الدستور والزميل إبراهيم غرايبة في جريدة الرأي، وأحسب أن الكتابة عنه وفاء ليس لشخص يخصني، وإنما لشخص كان له دور عام أفاد به كثيرين.
فعلي أبوهلالة بدأ تأليف مناهج قواعد اللغة العربية للمرحلة الثانوية، وهو في العقد الثالث من عمره. بالاشتراك مع الأستاذ في الجامعة الأردنية الدكتور نهاد الموسى، أبرز النحويين العرب، أمد الله بعمره، وهي مناهج درسها ملايين الأردنيين لم يتعلموا فيها النحو فقط، وإنما غرست فيهم قيما ومفاهيم تتجاوز ما كانت المدارس تدرسّه مستوردا من مصر، لغة بحجم القاعدة النحوية (ضرب زيد عمرا وما شاكل).
في المناهج التي درستها بعد وفاته، كنا نتعلم القواعد من خلال أجمل ما في اللغة من نص قرآني ونبوي، إلى شعر جاهلي وإسلامي، وصولا إلى نزار قباني ومحمود درويش.
منهاج القواعد كان يعمل العقل ويخلق روح التحدي، ولا أنسى في درس صيغ التفضيل تمرين فيه خطأ لغوي لعملاق الصحافة العربية محمد حسنين هيكل؛ المثال كان عن استخدام هيكل لصيغة “الدولتين الأعظم” الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأميركية. والصحيح “الدولتين العظميين”. لم يكن تصيدا لهيكل بل كان تمرينا للطالب بأن عملاقا مثل هيكل يخطئ وأن طالبا في المرحلة الثانوية يصحح.
كان رحمه الله قصة نجاح أردنية، يتيم الأم نشأ في معان، والده ظل بعيدا، كان تاجرا فاشلا، مع أنه وصل في تجارته إلى تبوك ومصر، في الظرف القاسي تمكن من التفوق في مدرسة معان الثانوية، الظروف الاقتصادية لم تمكنه من دراسة الطب في تلك الأيام، فرضي في بعثة لدراسة الآداب في جامعة دمشق. وعاد إلى معان مدرسا فمفتشا فعضوا في قسم المناهج في وزارة التربية والتعليم.
في السبعينات كان ثمة طبقة وسطى. جئنا إلى عمان وكان دخل الوالد الموظف في التربية والتعليم ودخل الوالدة المعلمة كفيل بحياة في جبل الحسين أحد أحياء عمان الراقية في تلك الحقبة. وكان الخليج واعدا فأعير إلى شركة فنيل الأميركية مديرا لبرامج محو الأمية في الحرس الوطني السعودي. الوعد تحول كارثة بعد أن قضى في حادث سير على طريق الرياض. لكن السنتين اللتين عمل فيهما في السعودية مكنتاه من شراء قطعة أرض وكفلتا في حينها حياة فضلى لنا.
التجربة القاسية قلل من سوئها عاملان؛ شبكة الأمان الأسري من حلقات الأقارب والأم والأعمام والأخوال وحلقة الأصدقاء، وعامل الدولة التي كانت تعمل في ذلك الحين. لم نكن خائبين لكننا جميعا، أنا وأشقائي الأربعة، درسنا على حساب الدولة. ووقفنا على أرجلنا؛ ضابطان وطبيب ومحاسب وصحافي. ما كنا لنتمكن من ذلك لولا الأسرة والدولة.
درست اللغة العربية لأكمل رسالته لدرجة الماجستير التي توفي قبل أن يكملها. أعدها بالاشتراك مع عبدالله عويدات (أكمل الدكتوراه وصار وزيرا للشباب ثم للتنمية الاجتماعية) وكانت عن قاموس الطفل العربي، وتطلبت مجهودا مضنيا في تلك الأيام وكلفة عالية في تجهيز مسجلات وتزويد المدراس بها ثم تفريغها. وفي الجامعة استهوتني الصحافة، وهي ليست بعيدة عن اللغة.
“إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له”، كما في الحديث، وأحسب أن العلم النافع خير ما ورّثه وهو ما يكفيه في دنياه وأخراه، غير أن هذا لا يعفي الدولة ووزارة التربية تحديدا من تكريم من بقي حيا ممن قامت المناهج على أكتافهم، وحققوا للأردن المكانة الأولى عربيا في المستوى التعليمي، ولم ينالوا حمدا ولا شكورا.
هل تريد التعليق؟