لا ينفك المسؤولون الأميركيون والبريطانيون يتحدثون عن “الاستقرار” و”التحسن” في العراق. أما الحكومة العراقية فهي تتحدث بلغة أكثر مبالغة وأقل تواضعا. وجاءت عملية التهجير الأخيرة لمسيحيي الموصل لا لتكشف عن حجم مأساتهم بل حجم كارثة نظرة الاحتلال وحكومة الاحتلال لهم.
يفكر الطرفان بطريقة براغماتية ، فالمسيحيون ليسوا قوة وازنة في العراق، الأولوية للشيعة ثم للأكراد ثم للسنة. أما المسيحيون وباقي الأقليات فيمكن تأمين أماكن لجوء لهم خارج العراق. وسفراء الدول الأوروبية نشطاء في تأمين التأشيرات للمسيحيين وما هي إلا سنوات قليلة حتى يصبح وجودهم في العراق مجرد تاريخ.
تثير السخرية المرة حكومة المالكي عندما تتحدث عن إرسال فوجين إلى الموصل ( ألف عسكري ) لحماية المسيحيين. فهؤلاء عير كافين لحماية المالكي وحده إن رغب في زيارة المدينة المضطربة. وحماية المسيحيين لا تتم بإرسال قوات بل بإقامة دولة المواطنة لا دولة المذهب والطائفة والعرق. وهي لا تقوم بقوة السلاح وحده.
لنتذكر ما جرى في الموصل ابتداء بيوم سقوطها، قفد استهدفت بأعز ما فيها وهي جامعتها التي تعرضت مكتباتها ومختبراتها للتخريب والنهب. ولم تقم القوات الغازية بحماية الجامعة، مع أن وجود همر أميركي على باب الجامعة كان كفيلا بطرد الغوغاء الذين استباحوها.
تكرر في الموصل ما تعرض له متحف بغداد ومؤسساتها، وكان بإمكان الأميركيين الاستفادة من الدرس لو وجد حسن النية وعذروا بالجهل وسوء
التخطيط. وللتذكير فإن الذي “حرر” الموصل هو الجنرال ديفيد بتريوس الذي صار قائد القوات الأميركية في العراق وكيلت له المدائح لأنه تمكن من تحقيق الاستقرار ولو كان هشا، وهو اليوم يسعى لتكرار “نجاحاته” في أفغانستان.
ليست مأساة المسيحيين في الموصل والبصرة وبغداد ولا الصابئة ولا اليزيديين إنها مأساة دولة المذهب والطائفة التي أقامها الأميركيون في العراق، في الدولة التي نصبها زهاء مئتي ألف من القوات الأميركية وقوات التحالف. القيمة ليست للفرد الإنسان بمعزل عن مذهبه وطائفته وعرقه بل للجماعة المغلقة على تعدادها. هذا ليس دفاعا عن النظام السابق باعتباره أعلى من قيمة الفرد الإنسان. كان نظاما قوميا يرى الأمة العربية فوق الإنسان الفرد وفوق الجماعات المذهبية والطائفية والعرقية. إلا أنه ظل أهون الشرين إن قيس بالنظام الراهن.
حاول النظام السابق إقامة دولة قومية توسعية توحد الأمة وتحرر فلسطين، وفي المحاولة دمرت الدولة الوطنية العراقية ولم تتوحد الأمة ولم تتحرر فلسطين، وبعد سقوط نظام البعث لم تتواضع طموحات الساسة العراقيين ليبنوا بلدهم على قواعد صحيحة. ظلت الطموحات التوسعية موجودة عند أهم طرفين وهما الشيعة والأكراد. في داخلهم يشعرون بتفوق شوفيني على الآخر لاعتبارت مذهبية أوعرقية . الشيعي يرى نفسه ضحية من “الخلفا إلى الحلفا”، والكردي كذلك وكلاهما يريد دولة شيعية كبرى ودولة كردية كبرى لا يتسع العراق لأحدهما أو كليهما. وبين الطموحين حنين العرب السنة يمتد من دولة بني العباس إلى دولة البعث. والنتيجة هي الفشل في بناء محافظة محترمة فكيف بدولة ؟
في العهد العثماني، أي الخلافة الإسلامية, كان زهاء ثلث سكان بغداد من اليهود وفي العهد الملكي كان أول وأبرز وزير مالية يهوديا. والموصل اليوم تضيق بالمسيحيين ؟ فهل الاحتلال وحده هو المسؤول؟
يتواصل هجاء الأميركيين ( وهو صحيح بالمجمل ) بموازاة استمرار القتل والتهجير. في غضون الهجاء ألا يمكن مراجعة النفس قليلا في العراق وخارجه؟ خطف الحريق العراقي أبصار العرب وألهاهم عن متابعة حرائق صغيرة وكامنة لا تحتاج سوى الى صب الزيت عليها لتنافس الحريق العراقي.
لا يخلو بلد عربي من حريق كامن ينذر بموصل أخرى. تحقق توافق سياسي في لبنان ولم يبدأ حتى اليوم بمراجعة للأسباب الحقيقية التي دمرت البلاد. تكشف طرفة حقيقية رواها لي صديق ماروني كيف يفكر اللبناني. سائح خليجي توقف في قرية مارونية وسأل عن مسجد للصلاة أجيب باستنكار ” كنيسة أورثوذوكس ما في هون بدك جامع؟!” .
هكذا يشتغل العقل العربي يضيق بكنيسة ومسجد اليوم، في الوقت الذي خشي فيه عمر بن الخطاب أن يصلي في كنيسة القيامة حتى لا تحول مسجدا قبل أكثر من ألف عام وأقيم بجوراها مسجد عمر شاهدا على التعايش.
الظلام ليس مطبقا، في تركيا يلوح أفق. تسعى حكومة أوردغان إلى شراء أقدم جامعات قرطبة للحفاظ عليها، وتعود الجامعة التي ستؤهل فيها مسجدا سيكون الأول منذ سقوطها في يد الإسبان إلى العصر الذهبي في الأندلس. في المقابل ستبنى كنيسة في أسطنبول . وينقل متابع لـ “الصفقة الحضارية” عن أحد مستشاري ملك إسبانيا وهو متخصص في حضارة الأندلس أنه يجد نفسه في دمشق واسطنبول ومراكش –وهو المسيحي- أكثر مما يجد نفسه في أوروبا.
هكذا تحل مشاكل العراق ومشاكل المنطقة، فالمسيحيون وجميع الطوائف هم أولا مواطنون، أمن أي فرد منهم هو أمن الدولة كلها. وفوق ذلك هم لم يهبطوا من المريخ ولم يجلبهم الاحتلال مستوطنين، هم جزء من حضارتنا أثروا وتأثروا بها. عاش أجدادهم في هذه الأرض ويعيش أحفادهم ولا يجوز أن يتركوا نهبا لإغراء السفارات الغربية وإرهاب المتطرفين قوميا ومذهبيا.
أقترح أن تبادر محافظة الأنبار بمبادرة رمزية، وهي التي تخلو من المسيحيين إلى بناء كنيسة أشورية وكلدانية تماما كالكنيسة التي ستبنى في اسطنبول. لن يكون مغريا لأحد الإقامة في الأنبار، لكنها رسالة رمزية باتجاه بناء دولة المواطنين ودولة الأمة من دون الحاجة إلى مئتي ألف جندي احتلال أو صنيعة احتلال.
هل تريد التعليق؟