يمكن تسعير الحرب على أوروبا مجددا – بعد حرب الرسوم المسيئة – بذريعة السجون السرية هذه المرة. فهاهو البرلمان الأوروبي يناقش استضافة دول أوروبية لتلك السجون أو تقديم تسهيلات للطيران الذاهب إليها. وما هي إلا أيام، أو أسابيع على الأكثر، حتى تتكشف أسماء تلك الدول. وهي حسب ما رشح من تسريبات ليست من الدول الأعمدة للاتحاد الأوروبي وإنما من الدول “اللفوفة” بحسب التعبير العشائري الأردني.
منظمات حقوق الإنسان في العالم العربي والإسلامي، وأحزاب المعارضة والنقابات وجميع القوى الشاعرة بالكبت والحرمان، تستطيع شراء أعلام لتلك الدول (رومانيا وبولندا مثلا) وتقوم بإحراقها أمام الاتحاد الأوروبي. وفي بيروت ربما تنفعل القوى السياسية الموالية لدمشق وفي نوبة حماسة تقدم على إحراق شركة تستورد اللحوم الرومانية في حال عدم وجود سفارة رومانية.
باستثناء إحراق الشركة فإن التحرك مطلوب وضروري ليس من باب تنفيس المكبوت السياسي والاستقواء على دولة هامشية وتسعير صراع الحضارات، وإنما من قبيل احترام الذات. فلا يعقل أن تتحرك دول أوروبية على مستوى رسمي وشعبي ضد الولايات المتحدة والدول المضيفة للسجون السرية ولا يتحرك أحد في العالم العربي والإسلامي، مع أن زبائن تلك السجون من أبناء جلدتنا.
ليس أخلاقيا وليس إسلاميا التعامل مع الأوروبيين بهذه الطريقة. “فلا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى”؛ فالدول الأوروبية بعامة ينطبق عليها حال الهجرة الأولى للصحابة إلى الحبشة. عندما حثهم النبي عليه السلام على مغادرة مكة والأهل والعشيرة وصولا إلى بلد قصي فيه “ملك لا يظلم عنده إنسان”. النجاشي أسلم من بعد سرا وصلى عليه النبي صلاة الغائب.
مرفوض الإساءة للنبي الكريم برسم أو غيره، ومرفوض الإساءة للقرآن الكريم، وكان لتحرك المسلمين دفاعا عن كرامتهم دور حاسم في إعادة الاعتبار لهم أمام العالم باعتبارهم بشرا لهم كرامة. لكن أمة النبي ليست رموزا فقط (النبي عليه السلام والقرآن الكريم) وإنما بشر يسعى بذمتهم أدناهم. وهاهم الأوروبيون تحركوا من أجل المعتقلين المسلمين في غوانتنامو والسجون السرية ولم يتحرك أحد بموازاتهم من أمة العرب والإسلام. مع أن هؤلاء المعتقلين لا يحملون في صدورهم غير الغضب على كل ما هو غربي أوروبيا كان أم أميركيا.
على العالم العربي والإسلامي اتخاذ موقف أخلاقي من أوروبا اليوم، فعلى أرضها ثوى كثير من المقموعين سياسيا وفاقدي الأمل اقتصاديا. وفيها حصلوا على حقوق ما حلم بها أباؤهم في بلدناهم المتحررة من الاستعمار الأوروبي. لندن وحدها استضافت على رغم علاقاتها بإسرائيل مسؤول حماس بالضفة الغربية، كما استضافت رئيس حركة النهضة التونسية الشيخ راشد الغنوشي. وقيادات الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية، وسعد الفقيه من المعارضة السعودية وياسر السري من مصر، وغيرهم كثير إلى درجة أن أكثر من عاصمة عربية اتهمت لندن بأنها عاصمة الإرهاب.
مع كل ذلك حدثت تفجيرات القطارات في لندن. وجاء التعامل معها بمنتهى الحكمة والمسؤولية. حتى توني بلير المصنف إلى جانب بوش في محور الشر، بالمخيال الشعبي، ربط التفجيرات بما يجري في الشرق الأوسط. وهو كلام كان سيودعه السجن لو قاله في مصر بعد تفجيرات دهب التي قتل في حملة المداهمات التي تلتها (حسب التصريحات الرسمية المصرية) عدد مقارب لعدد المعتقلين في لندن عقب التفجيرات. وكلنا يتذكر الضجة على الشرطة البريطانية واعتذراها بعد قتل مشتبه به وهي ضجة لم تشهدها مصر طبعا.
ذلك كله لا يلغي الموقف الرافض لقوات الاحتلال البريطانية في أفغانستان والعراق. وهي قوات تظل خاضعة للقرار السياسي. فليس مستبعدا أن تنسحب تلك القوات قريبا. فالإعلام البريطاني هاجم حكومة بلير بقسوة من قبل الحرب ومن بعدها كاشفاً أسرارها ومعريا أخطاءها. مع أن عماد الإعلام البريطاني إذاعة البي بي سي ممولة بالكامل من خزينة الحكومة.
غوانتنامو في طريقه للزوال فقد غدا عبئا على الإدارة الأميركية، ولولا تشعب المؤسسات وتضارب الصلاحيات لكان نسيا منسيا. فمسؤولية السجن تخضع بشكل مباشر لوزارة الدفاع ولقيادة المنطقة الجنوبية العسكرية تحديدا. والرئيس الأميركي يستمع للساسة وللعسكر ولا يستطيع اتخاذ قرار بهذه الحساسية من دون رضى المؤسسة العسكرية ووزارة الدفاع. بالمحصلة لم تعد فائدة للسجن وبوش يعلم أكثر من غيره كم سبب له السجن من حرج في زيارته الأخيرة لأوروبا.
كم سيكون مفاجئا لقارئ التاريخ، بعد سنين، هذا الموضوع! وكم سيكون مستحسنا وجود مساهمة عربية وإسلامية فيه لدول الضحايا. على الأقل مساهمة في شكر من تصدوا لغوانتنامو والسجون السرية.
هل تريد التعليق؟