في عام 1995 أجريتُ مقابلة مع الدكتور حسن الترابي لصحيفة “السبيل” وكان وقتها حاكم السودان غير المتوج. ومقصد الصحافيين عربا وأجانب. ومنحني بعد لأي في ظل زحمة انشغالاته ساعة من وقته. إضافة إلى التسجيل كنت آخذ ملاحظات أثناء المقابلة، وهو يتحدث بتدفق وبلغة ساحرة. ذهبت إلى الفندق متحمسا لتفريغ المقابلة لأصدم أن المسجل لم يسجل شيئا!
تكلمت مع مدير مكتبه وأبلعته بالفاجعة التي حلت بي، شاركني همي وقال إن من الصعوبة بمكان تجديد موعد آخر، خصوصا أن الخرطوم كانت تستضيف مؤتمرا دوليا للأديان وكثير من الساسة ورجال الدين والفكر والصحافيين يحرصون على مقابلته. إلا أنه وعدني بترتيب موعد سريع أشرح له الكارثة التقنية وعلني أؤجل سفري تمهيدا لموعد جديد. قابلني بابتسامته المعهودة وقال لي بلغة أبوية، يمكن أن تأخذ موعدا آخر. لكن من خبرتي “الصحافي الجيد لا يحمل مسجلا”، أنت حاورتني والمهم هو ما فهمته مني وعلق في ذهنك وهو ما يفيد القارئ. وهذا ما يفعله الصحافيون الكبار. بالفعل عدت للملاحظات التي سجلتها، وبعد أن نشرت قارنتها بمقابلة سابقة معه فرغتها حرفيا، فاكتشفت صواب وجهة نظره.
لا يقلل ذلك من أهمية “الريكورد”؛ التسجيل سواء على المسجل أوالكاميرا، فما هو موثق بهما هو الرسمي والمعتمد. مع أن الجوهري والمهم والسبق كثيرا ما يكون “أوف ذا ريكورد” على قول الأميركان. في الصحافة الأردنية بخاصة والعربية بعامة وبسبب غياب التقاليد الصحافية لدى الصحافي والمسؤول، كثيرا ما تقع إرباكات. عندما يقول المسؤول إن كلامه ليس للنشر. وفي مصر وقعت أزمة بين الخارجية الأميركية وصحافي مرموق زار الولايات المتحدة ضمن برامج وزارة الخارجية الأميركية وكانت كل اللقاءات “أوف ذا ريكورد” فعاد الصحافي ونشر كل شيء.
ليس ضعفا ولا عجزا من المسؤول أن يقول هذا الكلام ليس للنشر. وثمة مستويات للنشر أولها الكلام الرسمي على لسان المسؤول، والمستوى الثاني النشر من دون أن يكون على لسانه، وتنسب إلى مسؤول رفيع المستوى، والمستوى الثالث وهو الأهم ما ينشر من دون النسبة إطلاقا، مثل أن يلتقي مسؤول أردني صحافيا ويخبره أن مجلس النواب سيحل، فيكتب الصحافي أن المجلس لن يكمل دورته. والمستوى الرابع وتكون المعلومات فيه ذات حساسية عالية جدا فيقال للصحافي هذه المعلومات لك وليست للنشر بأي شكل. ويمكن ساعتها للصحافي أن يدخرها إلى وقت يحين فيه نشرها بالاتفاق مع المصدر.
في الصحافة التركية يمكن أن تقرأ لكاتب يعتبر الأقرب إلى أردوغان، ومن مقالاته تعرف كيف يفكر وإلى أين يسير، وتكون المقالة أكثر دقة من التصريحات العلنية في المؤتمرات الصحافية أو تحت قبة البرلمان، وفي الصحافة الإسرائيلية يمكن أن تعرف كيف تفكر المؤسسة العسكرية من خلال كاتب مثل زئيف شيف، وفي لبنان كنت تعرف كيف يفكر حزب الله من خلال مقالات الراحل جوزف سماحة في الأخبار. أولئك الكتاب والصحافيون لا يحملون كاميرات ومسجلات، ولا حتى أقلاما أحيانا، في لقاءاتهم المطولة مع المسؤولين الذين يتحدثون معهم براحة وانفتاح وبلا قيود.
في أميركا يعطى العاملون في الخارجية دورات حتى يميزوا بين مستويات التصريح، ولا يعيب المسؤولين عندنا أن يأخذوا مثل هذه الدورات، تماما كما لا يعيب الصحف والمؤسسات الإعلامية و نقابة الصحافيين أن تعقد مثل هذه الدورات للصحافيين والكتاب. والصحافي الجيد ليس الذي ينشر كل شيء بل القادر على التعامل مع المعلومة بمسؤولية وأمانة وصدقية. وكثير من المصادر مهما علت مناصبهم لا يستطيعون أن ينشروا باسمهم معلومات ومواقف، ومن حق القارئ والمشاهد أن يحصل على المعلومة أو الموقف ولو كانت غير منسوبة مباشرة لقائلها.
هل تريد التعليق؟