مقالات

أيرتقون إلى مقام غزة؟

تغيب مشاهد الانكسار والتذلل في غزة بعد ما حاق بها من دمار غير مسبوق في تاريخ البشرية. وتحضر معاني الانتصار والصمود والمقاومة. ليس عند المقاومين الذين باعوا أنفسهم لله فحسب, بل عند عامة الناس. فالانتصار لم يكن فصائلياً بل كان انتصارا لأبناء غزة جميعا الذين دفعوا كلفة التضحية وقبضوا ثمن الانتصار.

أكثر ما يحير في صمود الغزيين أطفالهم؛ قرب مبنى السرايا الذي سوي بالأرض كانوا يلعبون الكرة. سألتهم لماذا تلعبون في وقت الغداء أجابني “زهقنا بالحرب” وأخذوا يتندرون من تلك الأيام التي خافوا فيها. وأحدهم ظل نائما “والعمارة ترقص”. لم يتسرب الإحباط إلى نفوسهم، وليس فيهم “ابن شوارع” كالذين تغص بهم شوارع كثير من المدن العربية بعد تسربهم من المدارس. جميعا يصرون على مواصلة التعليم، وجميعا مع المقاومة.

تلك الروح ليست طفولية، تجدها حتى عند كثير من الفتحاويين؛ ضابط في القوة 17 صادفته عندما كنت أعد تقريرا عن تجريف المزارع، مع أنه التزم بقرار الرئاسة بالبقاء في بيته بعد سيطرة حماس، إلا أنه لا يخفي إعجابه ببطولة المقاومين. ولا يتحسر على مزرعته التي أصبحت كالصريم بفعل الطائرات الإسرائيلية، ولكنه يتحسر على أيام كانت “المقاومة حلوة”. عندما كان الاحتلال في غزة وبإمكان المقاتلين مواجهته بسهولة قياسا بالحرب عن بعد هذه الأيام.

يدرك الضابط الذي أمضى زهرة شبابه في المعتقلات الإسرائيلية أن فتح وحدها لا تستطيع مواجهة إسرائيل وكذلك حماس، ولا بديل للوحدة. ويضرب مثالا على تعامل الإسرائيليين بالمفاوضات والمعابر بتعاملهم في السجن، إذ كان للسجين كوب وملعقة وصحن. فيصادرونها, وبعد إضراب السجناء يعيدون الكوب بدون الملعقة، ثم يعيدون الكوب بدون الصحن وهكذا. فهم لا يريدون حلا وإنما يتحايلون.

ليست هذه كل أجواء فتح، فعندما تدخل الجامعة الإسلامية لتشاهد تدمير مختبراتها تصدمك مشاهد الحرائق الباقية من أيام الاقتتال الداخلي قبل الحسم العسكري لحماس. وماتزال على الجدران إلى اليوم عبارات “قوات الرئاسة مرت من هنا”. طبعا من حرقوا الجامعة الإسلامية ليسوا أكثرية فتح، ولا تخطئهم في المنتديات وهم يحرضون على الجامعة الإسلامية لأن مختبراتها تصنع السلاح الجرثومي!

لم أكن أتوقع عندما قابلت النائب عن حركة فتح، فيصل أبو شهلا، أن يتحدث عن “انتصار” كنت أتوقع أن أسمع منه عن “مغامرة” أو “صمود” في الحد الأقصى. لكنه تحدث بقوة عن انتصار شاركت فيه كتائب شهداء الأقصى. وفي النهاية الشعب الفلسطيني ليس مناصفة بين فتح وحماس. التضحيات قدمها الناس جميعا مسلمين ومسيحيين أيضا.

ليس أئمة المساجد فقط من يمجدون الشهداء والمقاومة، فكنائس غزة مجدتهم أيضا. ومن قضوا بحسب راعي كنيسة اللاتين مانويل مسلم في قداس الأحد دافعوا “عنا وعن كرامتنا وعن وجودنا”.

قلّ أن تجد من قيادات حماس مَن لم يستشهد قريب لصيق له، لم يكونوا جميعا مدنيين. ومَن تشاهدهم من قادة سياسيين على الشاشات تجد شقيقه أو ابنه مقاتلا في الصفوف الأولى. وفي غزة الصغيرة يعرفون جيدا حجم البطولة والتضحية التي قدمها هؤلاء الشباب. ليس هذا وحده ما عزز شعبية حماس بعد الحرب، وإنما كفاءتها في إدارة الحياة المدنية أثناء العدوان. فلم تسجل جريمة ولم تقع فوضى، ولم تنقطع المساعدات.

كان سعيد صيام في آخر أيامه يقول في الاجتماعات “تعبت, عساني أستشهد”، وحسنا أنه استشهد قبل أن يرى إلى أي منزلق انحدر الحديث عن إعادة الإعمار، وكأن حماس شركة مقاولات تنافس على كسب المشاريع.

ألا يرتقون إلى مستوى غزة؟ أو أطفال غزة على الأقل؟

هل تريد التعليق؟