في مذكرات السياسيين السوريين وتاريخ سورية الحديثة، تبدو صورة مشرقة لجماعة الإخوان المسلمين؛ سواء كانت مذكرات أبناء الجماعة، كعدنان سعدالدين، أم خصومها السياسيين، مثل أكرم الحوراني. فالجماعة كانت تمثل شريحة سياسية محافظة واسعة، عابرة للطوائف والإقليميات، شاركت في الانتخابات ضمن تحالفات سياسية، وشاركت في الحكومات، وكانت جزءا من نسيج الدولة. وحتى بعد انقلاب البعث العام 1963، استثنيت من بعض الإجراءات التعسفية التي طاولت الأحزاب، فبقيت صحيفة الجماعة تصدر بعد إغلاق الصحف. وهي الحركة الوحيدة التي رفضت الانفصال عن الجمهورية المتحدة، رغم استئصال عبدالناصر لفرعها الأم في مصر، وكانت تحظى، على ذمة أكرم الحوراني، بدعم سعودي.
ولا يعيب الجماعة ذلك، بما أن الدعم جاء في إطار توافق سياسي معلن، وليس رشى مالية سرية. وبعد ضربها، وجدت الجماعة ملاذا في السعودية. وكان الشهيد الملك فيصل، رحمه الله، محبا للإخوان مقربا لهم، وظل الشيخ محمد محمود الصواف، المراقب العام للإخوان، مبعوثه الشخصي وأقرب مستشاريه. لا يُقرأ ذلك في إطار الصراع مع عبدالناصر والمعسكر الاشتراكي فقط، بل أيضا بفعل التقارب الفكري والسياسي بين الجماعة والدولة السعودية التي تتبنى قيما مشتركة معها.
المفارقة اليوم هي وجود “فيتو” سعودي على الجماعة في سورية. وهو “الفيتو” الذي أسهم بشكل أساسي في إطاحة حكم الإخوان في مصر. لا مجال لتغيير القناعة السعودية التي ترى في الإخوان وامتدادهم التركي خطرا يوازي إيران، وسورية اليوم في أمسّ الحاجة إلى الدعم السعودي؛ سواء في إطاحة بشار، أو إعادة الإعمار. ومصلحة سورية مقدمة على مصلحة الجماعة.
لا يعني ذلك أن تنسحب الجماعة ويعتكف أعضاؤها في بيوتهم، بل أن ترسل رسائل طمأنة من خلال الابتعاد عن العمل السياسي المباشر، وأن تسهم في دعم الأكفأ، وتنشغل بالعمل الإغاثي والخيري والدعوي والتربوي، وتتجنب الصراعات السياسية ما أمكن. وطبعا، تبقى تتبنى ثوابت وتدافع عنها، وتتحالف مع من يدافع عنها. وثوابت سورية هي ما كانت عليه في دستورها العام 1950؛ وهو دستور يعبر عن هوية عربية إسلامية، ويضمن آليات تعددية وديمقراطية.
حماية الثوابت في الهوية والحرية، والنأي عن المنافسة السياسية، سيعطي الجماعة مكانة مرجعية واحتراما من الداخل والخارج. للجماعة شبكة علاقات عربية وإسلامية ودولية، تؤهلها لهذا الدور، وتمكّنها من تحييد “الفيتو” السعودي. وسورية ما بعد الثورة تحتاج جهودا جبارة في إعادة الإعمار، يستطيع الإخوان المساهمة فيها. وفي ظل أجواء الانقسام، يمكن أن تلعب الجماعة دور المحكم والوسيط بين الفصائل الكثيرة. وكما قيل: ازهد ما في أيدي الناس، يحبك الناس. وعندما تشعر الألوية والفصائل أن الإخوان لا ينافسونهم على مغنم، فإنهم سيعطونهم ثقتهم.
لا تحتاج الجماعة لإثبات حسن سيرتها للشعب السوري؛ فهو يعلم ما قدمته في سنوات الخير، وكم صبرت وضحت في سنوات الجمر والرماد. لقد دفعت الجماعة في مواجهة النظام الاستبدادي الطائفي آلافا من شبابها؛ غُيّبوا في السجون والمقابر الجماعية، وشُردوا في قارات العالم. وما قدمته هو واجب مستحق بلا فضل ولا منة. لكن الجماعة تحتاج في المقابل إل
ى إثبات “حسن سيرتها” لكثير من الدول الداعمة للشعب السوري، عربية وغربية، وتحتاج أيضاً إلى إيضاح صورتها لجيل سوري لم يخالطها عن قرب.
سورية تحتاج بعد سقوط نظام الأسد إلى جهود وتضحيات تفوق ما قُدم خلال نصف القرن الماضي. والإخوان عليهم أن يضحوا بمكاسب سياسية زائلة، من أجل سورية النازفة المنهكة.
هل تريد التعليق؟