مقالات

إنهم يلوثون الينابيع في تونس

في غضون الاحتفال بعودة الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة إلى بلدته الحامة، وقبل أن يصل، بدا واضحا الفارق بين الحركة الإسلامية بتونس وأكثرية شقيقاتها في العالم العربي. فمع أن البلدة محافظة، إلا أن الذي يدير الحفل امرأة. أكثر من ذلك، كان المعهد الثانوي قد أعد مسرحية تمثل فيها فتيات بعنوان “الصرخة”. وقبل أن نشاهد “الصرخة” كان شباب الثورة، وهم الجيل الذي نشأ في غيبة الحركة وتشرب بعضه القيم التقليدية والتدين المتشدد، يعترض بشدة على تمثيل المرأة، ويحتج على الموسيقى. وهو ما كانت النهضة قد تجاوزته قبل عقود.

استُقبل الشيخ راشد زعيما وطنيا عابرا للحزبيات. وكنت تشاهد الشيخ الطاعن والفتى الصغير، المحجبة وغير المحجبة. فالناس على رغم سياسة تجفيف الينابيع تقدر الشيخ من خلال نضالات النهضة، وحضوره الفكري والسياسي من خلال الإعلام. فقد اعتقل من الحركة ثلاثون ألفا، وتعرض كل من له علاقة بهم للمضايقة والعقوبة المباشرة وغير المباشرة. وتقدر منظمات حقوقية عدد المتضررين بشكل غير مباشر بنحو مليونين؛ أي نحو عشرين في المئة من شعب تونس.

في خطابه كان الشيخ مرجعا فكريا وسياسيا يوحد الصف الوطني، ويطالب بدولة العدالة والحقوق والتنمية. لم يأت بجديد على أدبياته المنشورة، لكنه قدم نموذجا عمليا في التسامح والصفح والانفتاح. بعد الخطاب توجهنا إلى البيت الذي نشأ فيه الشيخ في وادي النور. كان جوا عاطفيا تختلط فيه الدموع بالضحكات. الكبار رحلوا والشباب كبروا. وفي البساتين كان يعدد النخلات التي يعرفها والزيتونات. البساتين فقدت نضرتها بسبب تجفيف الينابيع. لكن النخل والزيتون بدا أصلب من جفاف الطقس.

تماما كما التيار الإسلامي الذي صمد ونما، وحتى التشدد هو شكل من أشكال المبالغة في الرد على النظام السابق الذي استهدف الإسلام ذاته لا حركة بعينها. وبعد الثورة اندفع بعض الشباب في إبراز حضورهم، من قبيل إغلاق المواخير التي كان النظام السابق يرخصها. وحزب التحرير تظاهر رافضا الديمقراطية مطالبا بالخلافة! إضافة إلى مظاهر تحريض ضد اليهود. أما استهداف القس البولوني فقد أكدت سفارة بلاده ان الاستهداف جنائي لا سياسي.

يرى الشيخ راشد أن النظام السابق اعتمد في آخر سنوات، وبنصائح من اليسار التجمعي الذي انحاز للسلطة، إلى سياسة “تلويث الينابيع” بعد فشل سياسة تجفيفها. فمنعت كتابات التيار الوسطي مثل القرضاوي، وسمحت الكتب السلفية المتشددة. وتمت رعاية ما يعرف بالسلفية العلمية التي تحرم العمل السياسي والخروج على ولي الأمر. وهو ما بدا واضحا في مصر من خلال الشيخ محمد حسان الذي حرّم التظاهر في ميدان التحرير.

المؤكد أن سياسة التلويث ستفشل، لكنها آخر طلقات التيار العلماني التغريبي الاستئصالي في مواجهة ثورة شعب تونس، التي أكدت هوية الشعب العربية الإسلامية. ويكفي لمعرفة عمق هذه الهوية تتبع سير شهداء الثورة وذويهم.

هل تريد التعليق؟