يحضر المتنبي بقوة، فالشاعر كان إعلام عصره:
وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنها مضحكات كالبكا
يجتمع وزراء الإعلام العرب في القاهرة، وفي زمان ندر فيه وجود موقف عربي موحد، يصدرون وثيقة تضع “ضوابط” للقنوات الفضائية. الدولة المارقة عن الاجتماع كانت قطر، فتحفظت. وهو ما يذكر باجتماعات وزراء الداخلية العرب الذين شكلوا الاستثناء الوحيد لحال التمزق العربية. وظلوا يجتمعون بانتظام يضعون “الضوابط” للمواطن العربي الفالت.
تبدو اجتماعات وزراء الإعلام مثل الداخلية محاطة بستار من السرية والغموض؛ فجأة يجري الحديث عن وثيقة تضع “ضوابط” للقنوات الفضائية الفالتة. وكأنك تتحدث عن مجرم هارب يحتاج إلى “ضبط”. يتذاكى الوزراء، أو هم فعلا أذكياء ولن يورطوا أنفسهم فيظهروا بصورة القامع لحرية الصحافة. سيكثرون الحديث عن القيم والمثل، فأهل التقى والأدب المنتقى حريصون على أخلاق الجيل الطالع، فلا يبث ما يفسدهم. وهم الذين ناضلوا في سبيل الأمة الواحدة لن يسمحوا بـ”زرع بذور الفتنة”، ومن يمارس الاستقلال التام لن يسمح باختراقات الجبهات الوطنية من قبل “الأجنبي”.
قد نكون أغبياء لكن ليس لدرجة تصديق ترهات الحديث الإعلامي الرسمي. فما تبثه أكثر القنوات انفلاتا هو أقل مما تشهده علب الليل في المدن العربية المحافظة. ولا تطاول القنوات العربية المنفلتة ما تبثه أفلام السينما المجازة من الرقابات الرسمية.
إذن، وبقليل من الذكاء يمكن أن نستنتج أن المقصود بـ”الضوابط” هو الأخبار السياسية. وخصوصا قناة “الجزيرة”. لكن ماذا عن الدول الغربية التي تبث أخبارا سياسية. أميركا لديها قناة الحرة وبريطانيا لديها البي بي سي وألمانيا وفرنسا وغيرها تبث أخبارا بالعربية ماذا سيفعل بشأنهم الإجماع العربي؟
يتواصل الضحك على وصف المتنبي، فماذا تملك الدول العربية لتنفيذ ضوابطها؟ هل ستكون الضوابط أقسى من قوانين الإعلام في العالم العربي؟ وماذا فعلت تلك القوانين؟ تحطمت تحت عجلة التقدم. فالإعلام الرسمي العربي لم يعد يحتكر عيون المشاهدين. وهو يعلم من أين يأخذ خبره. ولو كان الإعلام الفضائي غير مشاهد لما اضطروا إلى الاجتماع والخروج بالوثيقة الخطيرة.
ليتهم يجتمعون لتأسيس صناعة سينما عربية تخاطب الغرب أو ينفذون ما دعوا له مرارا لإنشاء قناة تبث بالإنجليزية، ليتهم يجتمعون لتأسيس معهد تدريب يؤهل الأجيال الشابة لإعلام المستقبل، ليتهم يجتمعون لتهذيب اللغة المتبادلة بين وسائل الإعلام العربية.
هل كان الوضع أفضل أخلاقيا وسياسيا قبل الفضائيات؟ كفى كذبا، قبل الفضائيات أسست السينما سوق نخاسة الجسد في مشاهد ابتذال وإباحية، وهي سوق موجودة على الأرض في كثير من البلدان العربية قبل أن توثق سينمائيا وتلفزيونيا. هل كان العرب بخير وحدة وتآلفا وتضامنا، قبل الفضائيات؟ وقعت الحرب الأهلية اللبنانية وغزا العراق الكويت وحشدت الحشود على الحدود العربية، والشتم الإعلامي الفج كان صناعة “صوت العرب” في الستينيات قبل أن تظهر الفضائيات.
يتواصل الضحك، ولكنه كالبكاء، ولا بد من وضع “ضوابط” للمتنبي ولو في قبره.
هل تريد التعليق؟