مقالات

الأردن الأول عربيا في التعليم بجهود أربعة عقود

تلسع عاصفة الأسعار القارسة وجوه الأردنيين هذا الأسبوع. ومهما حاولت الحكومة تلطيفها بزيادة الرواتب وتوسيع شبكة الأمان الاجتماعي فإن المواطن يعرف أن نمط معيشته لن يستمر كما كان سابقا. لا أحد يستطيع أن يعرف إلى أي مدى يمكن أن ترتفع السلع التي ترتبط جميعها بأسعار النفط.سيعيد المواطن ترتيب أولوياته وفق الأسعار الجديدة. ولن تصمد كثير من التقاليد الاستهلاكية أمام العاصفة المقبلة. المؤكد أن المواطن الأردني لا يفرط بأمرين: التعليم والصحة، وما دونهما – مضطرا سيضحي بالكثير. حتى ما بدا ضروريا في سالف الأيام. <br/> <br/>وفي الأثناء، وبشكل غير متوقع هبت نسمة خفيفة تلطف الأجواء؛ فتقرير “الطريق غير المسلوك: إصلاح التعليم في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”، الذي أعلن في عمان أمس كشف أننا نسير في الطريق الصحيحة، ولو نسبيا، مقارنة بالدول العربية، حتى الأعرق منا حضاريا والأغنى منا ماليا. <br/> <br/> ليس إنشاء أن الأردن في التقرير الذي أعده خبراء دوليون اعتمادا على قاعدة بيانات تمتد لأربعة عقود (1965-2005) تقدم على الكويت والسعودية وإيران! في المؤشر الموحد للتعليم الذي يراعي الحصول على التعليم والمساواة بين الجنسين والكفاءة والجودة. جاء الترتيت الذي شمل أربعة عشر بلدا ممثلا لدول المنطقة كالآتي: الأردن، الكويت، تونس، لبنان، مصر، الضفة والقطاع، الجزائر، سورية، السعودية، المغرب، العراق، اليمن، جيبوتي. <br/> <br/> لم يتحقق انجاز كهذا بضربة حظ ولا بمساعدات دولية ولا بثروة ولا بإرث، انه جهد مضن متواصل استمر لأربعة عقود. ويستحق القائمون عليه أي العاملون في التربية والتعليم؛ والقيادات من وزراء وأمناء عامين ومديري ومؤلفي مناهج ومدرسين التكريم بأرفع الأوسمة. فهم حققوا في أصعب الظروف الاقتصادية والسياسية إنجازا عجزت عنه دول كان فيها جامعات يوم لم يكن عندنا مدارس ثانوية ودول دخلها اليومي يعادل دخلنا السنوي. <br/> <br/>في التفاصيل يقول التقرير “لدى الأردن والكويت نظام تعليمي قيم”، وفي تدريس الرياضيات والعلوم الدولية سجلت إيران والأردن أفضل الدرجات في العلوم، ولبنان والمغرب أدنى الدرجات، وفي الرياضيات سجل الأردن ولبنان أعلى الدرجات والمغرب والسعودية أدنى الدرجات. <br/> <br/> أنفق الأردن من موارده القليلة كثيرا على التعليم، حتى موازنات الدفاع كان يذهب جزء مهم منها على التعليم، كما في المكرمة الملكية لأبناء العاملين في القوات المسلحة، ومدارس الثقافة العسكرية، وجامعة مؤتة، والخدمات الطبية الملكية. ولا يزال الإنفاق على التعليم بمستوياته أولوية للدولة والمجتمع. <br/> <br/>لم يستمر الإنفاق بنفس الزخم والوتيرة بعد عام 1989، إذ غدا الإنفاق الحكومي بمجمله خاضعا لاعتبارات صندوق النقد الدولي التي تعطي الأولوية لسداد الدين وخدمته. ومذاك تراجع التعليم الرسمي وخصوصا في المرحلة الأساسية لصالح التعليم الخاص. ولا تجد اليوم قادرا يسجل ابنه في مدرسة حكومية، في ظل ارتفاع الأسعار المقبل ستضطر فئات كثيرة إلى الهجرة من التعليم الخاص إلى المدارس الحكومية. وبعض الاقتصاديين العاملين في قطاع الإنشاءات لا يستبعدون هجرة من عمان إلى المحافظات. فكلفة العقار شراء وإيجارا وما يلحق من تكاليف تعليم ومواصلات ستجعل كثيرين يفكرون بالعودة إلى مناطقهم التي هجروها. <br/> <br/>بقدر ما يضيء التقرير شمعة أمل يدق ناقوس خطر. فما بعد 2005 غيرما بعد 1965، فدول الخليج التي تقدمنا عليها في المارثون الطويل فتح لها ارتفاع أسعار النفط آفاقا في التعليم والتنمية غير مسبوقة. ليس على مستوى أبناء الخليج ولكن على مستوى المنطقة (مثل المبادرات الإماراتية والقطرية). واليوم بإمكان الطالب الخليجي أن يجلب المدرسة البريطانية والجامعة الأميركية إلى بلده، لا أن يذهب إلى التعليم هناك فقط. <br/> <br/>يستطيع الأردن على رغم صعوبة الظروف الاقتصادية الحفاظ على المرتبة الأولى، لو ظل التعليم أولوية للدولة والمجتمع. ومن الممكن أن يتراجع إذا تخليا عن مسؤولياتهما، والمنافسة اليوم أصعب منها بالأمس. فالمنافسة كانت كمية في محو الأمية والالتحاق بالتعليم الأساسي وإتمامه ثانويا وعاليا، واليوم المنافسة نوعية بحسب ما يعرف بـ”اقتصاد المعرفة”. <br/> <br/>تستطيع الدولة أن توازن بين الكم والنوع، فلا تستطيع الدولة أن تؤسس مدارس بمستوى القطاع الخاص، لكنها تستطيع في كل مركز محافظة أن تؤسس مدرسة نموذجية للمتفوقين. من رياض الأطفال إلى الثانوية. وفي التعليم العالي لا تستطيع دولة مثل أميركا أن تحقق مساواة في الجامعات، لكن لا بد من وجود جامعة على الأقل رسمية بمستوى أكاديمي مرموق. <br/> <br/>يطرح تقرير البنك الدولي تحديات مستقبلية وراهنه، فالتحصيل العلمي لم يسهم “كثيرا في زيادة النمو الاقتصادي أو الانتاجية في المنطقة”، ويصف العلاقة بين التعليم والنمو الاقتصادي بـ”الواهية”. يحاول تفسير ذلك بانخفاض مستوى التعليم (يعني وضعنا مثل الأول في سباق ذوي الاحتياجات الخاصة!) ومنتج التعليم. ويحذر التقرير من زيادة الطلب على التعليم العالي بسبب تضخم أعداد الشباب إلى الضعف على مدى 30 سنة المقبلة، ويقدر أن نسبة غير القادرين على إتمام التعليم العلي ستصل عام 2030 إلى 50 في المائة. <br/> <br/> ويدعو التقرير الدول إلى مفاضلات مالية، دون الوقوع في إغراء تحويل موارد التعليم الأدنى إلى الأعلى. وهو ما سيضر بالتعليم الأساسي. ويركز على النتائج قبل المدخلات، وفي مؤسسة اسمها “بنك” تبدو طرفة الدعوة إلى إيجاد “مصادر تمويل إضافية”. لكن من حيث المبدأ تظل الشراكة بين الدولة والمجتمع أجدى من الاقتراض الخارجي. <br/> <br/>بقيت ملاحظة أخيرة على التقرير. فهو يتحدث عن أربعة بلدان: لبنان وإيران والكويت وفلسطين، واجهت “صراعات سياسية واسعة النطاق منذ الستينيات”، ومع ذلك حافظت على مستوى متقدم نسبيا أفضل من الجزائر والسعودية. وفي هذا “تسييس” غير دقيق . فلا يمكن مقارنة احتلال الكويت العابر بالاحتلال المدمر على فلسطين منذ ستين عاما. وفي ظل أطفال الحجارة ومحمد الدرة كان الطفل الفلسطيني الأعلى في إتمام التعليم الأساسي بنسبة 106 في المائة. وينسى التقرير ويتناسى أن الأردن كان جزءا عضويا في الصراع (واسع النطاق!) وهو الذي تحمل عبء التعليم في الضفة من العام 1965 إلى فك الارتباط عام 1988، حتى دخول السلطة ظل الأردن هو المعني بملف التربية والتعليم لا سلطة الاحتلال. ولا يذكر التقرير شيئا عن حصار العراق والحرب المدمرة عليه. مع أنه ظل حتى 1990 من أفضل الدول العربية تعليما. <br/> <br/> سألت الدكتور مروان المعشر، نائب مدير البنك عن ذلك، قال: “إن قوانين البنك تمنع التدخل في السياسة”. حسنا، مع أن الدكتور مروان المعشر، صاحب الأجندة الوطنية، يدرك تماما أن السياسة تتدخل في كل شيء. فمدير البنك السابق هو وولفوتز، مهندس الحرب على العراق، وهل يمكن أن يقال إلا إن الحرب على العراق أضرت في “منتجات” التعليم؟ وانها جعلت الطريق إلى المستقبل أكثر وعورة، إن لم نقل غير سالكة بالنسبة للعراقيين؟ <br/> <br/>يحق لنا أن نحتفل بما أنجز في الأربعين سنة الماضية، من دون أن نغفل عن المخاوف والتحديات المطروحة علينا وعلى المنطقة في الأربعين سنة المقبلة. <br/> <br/>[email protected] <br/> <br/> <br/> <br/></p></div></h4>

هل تريد التعليق؟