حتى تبنى هوية وطنية نحتاج إلى كثير من التشريعات القانونية والإصلاحات السياسية والمناهج الدراسية. ذلك وحده غير كاف فالهوية مرتبطة بالمشاعر ابتداء. وهي لا تصدر على شكل قرارات من مجلس الوزراء ولا لجنة تنسيق أحزاب المعارضة. من خلال أغنيةٍ تسهم في صنع هوية وطنية، تماما كما تشوهها من خلال أغنية.
“في حجم بعض الورد إلا أنه لك شوكة ردت إلى الشرق الصبا”، هل يوجد أجمل من هذه الكلمات أو أعذب من صوت فيروز؟ في حال من تردي الذائقة انتشرت أغان ولا أقبح معنى ولحنا. فتجد أغنية تمزق الأردن إلى أدنى كسر عشري، وتجد الدهماء يتفاخرون بقرى وحارات على حساب وطن “في حجم بعض الورد”.
والأسوأ من ذلك اغان تمجد القوات المسلحة، واحدة منها تظن نفسك في مصحة للأمراض العقلية لركاكة كلماتها وقبح إيقاعها. ولا تنتظر القوات المسلحة تزلف أغبياء، وفي الميراث الشعبي مخزون لا يقارن بالأغاني الرثة الدارجة. ويكفي إن عَِجَز المؤلفون والمغنون عن إبداع الجديد أن يحيوا القديم:
” يا يمه شدي مهيرتي تسـلم انـا خيالــها
لاشري لها سرج جديد سرج الذهب يحلى لها
يابنت يالي عل الجبل طلي وشوفي افعالنـا
انتن حلاكن شعركن حنا حلانا سلاحنــا
جيناك يالقدس الشريف نفديك بـــدم رقابــنا ”
هذه أهزوجة تخلد بطولات الجيش العربي في معركة القدس عام 1948 وكانت حداء من بذلوا عزيز النفوس في أقدس البقاع. ولم تفقد ألقها على تقادم السنين وظل الأردنيون يهزجون بها في أعراسهم. ومثلها رائعة عبده موسى ” يا مقنعة بالنيا ..”
لا يمكن بناء حياة طبيعية من دون هوية وطنية، فالمؤسسة الصغيرة لها هوية تشكل الغراء الذي يربط بين موظفيها. فكيف بوطن متنوع متعدد .ووجودها بأفق إنساني مفتوح وعمق حضاري هو السد المانع في وجه العنصرية والانقسام.
ضربت أزمة الهوية بلدا مثل العراق ظل خطابه السياسي يتعامل معه باعتباره ” قطرا ” فلا أمة قطع ولا وطنا أبقى. والأردن ليس استثناء من أزمات الهوية، فلا يمكن أن تنسق أو تشارك أو تتوحد من دون أن تكون في داخلك موحدا. وما الهروب من الهويات الكبرى إلا عجزا عن بناء الهوية الصغيرة.
كل الأوطان العربية “حدود سايكس بيكو”. ومن لا يحب كل وطن منها على حدة لا يحبها جميعا. ولو ذاب الأردن يوما في دولة الوحدة العربية فمن الطبيعي أن يكون بنظر سكانه على الأقل أجمل الولايات . فالولايات المتحدة الأميركية التي تشكل أنجح تجربة لبناء الأمة الدولة تجد كل ولاية فيها تزهو على الأخريات.
فإن كانت قريش في رحلة الشتاء والصيف أكرمها الله بـ”إيلاف” هذه البلاد، فكيف بمن استقروا فيها ؟ يوجد أشخاص مرضى لا يألفون ولا يؤلفون، ينفرون من الأرض التي يمرون عليها أو يستقرون. وأحسب أن ما نسمعه من رثاثة وركاكة يفاقم تلك الحالات وبزيد عدد الإصابات. بقدر ما أن جميل الغناء يعالجها ويقلل الإصابات.
هل تريد التعليق؟