مقالات

الإعلام في مصر هو المشكلة

عندما يقال إن الديمقراطية ليست صندوق اقتراع، فإن هذا كالقول “ولا تقربوا الصلاة”؛ فلا تتوقف الديمقراطية عند الصندوق، لكنها تبدأ به، وهو الشرط الشارط لها.
توجد ثقافة ديمقراطية، ومؤسسات، وسيادة قانون. ولعل من أهم المؤسسات الديمقراطية الإعلام الذي حافظ على دوره الاستبدادي في مصر منذ ستين عاما، مضيفا إليه انحدارا خُلقيا غير مسبوق عالميا.
في ثورة يوليو، جاء جمال عبدالناصر بمشروع قومي ذي أفق أممي، نادى بوحدة عربية. وكان لمصر حضور عربي وأفريقي، وفي دول عدم الانحياز. كما كان لعبدالناصر مشروع مصري وطني، لكن هذا المشروع، وإن استند محليا إلى قاعدة العدالة الاجتماعية، إلا أنه قضى على الحريات العامة التي ظل المجتمع المصري يتمتع بها في العهد الملكي. وكان الإعلام واحدا من ضحايا الحقبة الناصرية.
“الأهرام” أسسها السوريون الذين يشن الإعلام المصري حملة عنصرية بغيضة ضدهم، ولم تكن صحيفة القائد. في عهد عبدالناصر بدأ الإعلام الشمولي الذي يخوض معركة القائد ضد العدو الخارجي والداخلي. وفي الإعلام الحربي، لا مجال للنقاش الحر المفتوح، وإنما تعبئة ودعاية وتحريض؛ هذا الإعلام الذي أسسه وقاده لعقود محمد حسنين هيكل الذي يحتفظ بشخصه إلى اليوم بكل وثائق الدولة المصرية، يُخرج منها ما يشاء متى يشاء، ويقرأ التاريخ بأثر رجعي.
مع ثورة التقنية والمعلومات، استمر الإعلام الشمولي يؤدي نفس الدور، لكن بأدوات أحدث وأوسع انتشارا، مع فارق يتعلق بمنسوب التراجع الخُلقي. فعندما أعدم عبدالناصر قيادات الإخوان، كتبت “الأهرام” الخبر، وغطت المحاكمة العسكرية بكل افتراءاتها، لكنها لم تصف المفكر سيد قطب بأنه “كلب”. الإعلام المصري عبر أحد نجومه اليوم يصف أيقونة بنات مصر، هالة أبو شعيشع، وشهيدات المنصورة بـ”الكلاب”! وهو الإعلام ذاته الذي يشيطن السوريين والفلسطينيين و”الإخوان”، ويدعو إلى سحلهم وقتلهم وتدمير بيوتهم.
طبعا، الحاكمون الذين أغلقوا في لحظة واحدة المحطات الموالية للرئيس الشرعي محمد مرسي، يغضون الطرف، لا بل يشجعون هذا الانحطاط. في ميدان النهضة، قتل 9 على الهواء وملايين المشاهدين كانوا يتابعون الاعتصام السلمي. ومن بين التسعة طفلة كانت في الخيمة قتلت بالرصاص. لا ينشغل الإعلام بالتحقيق الصحفي، ولا يتواجد في المكان، ولا يقرأ التقارير الطبية، لكنه فورا يكرر الروايات التي تتهم الضحايا الذين يحاولون دائما اقتحام مركز أمني (لماذا؟!).
الفضيحة الكبرى كانت للأهرام عندما نشرت لائحة اتهام للرئيس الشرعي نفاها المدعي العام والجيش. طبعا، في بلد ديمقراطي محترم هذه جريمة مكتملة، لكن يبقى رئيس التحرير في مكانه مواصلا أكاذيبه، ولا يقوم بدور الصحفي الذي عليه أن يسأل: أين الرئيس؟ فحتى لو كان مدانا، فإنه في الدستور المصري، وكل معاهدات العالم، لا بد من معرفة مكانه والتواصل معه من أهله ومحاميه. للمرة الأولى تستخدم السجون السرية مع رؤساء الدول. حتى الأميركيون تخلوا عنه في التعامل مع قضايا الإرهاب.
الديمقراطية ليست صندوق اقتراع، صحيح، هي إعلام أيضا. هذا واضح عندما تقارن صحيفة “الغارديان” البريطانية بأي صحيفة عربية أو مصرية في التعامل مع مجزرة الحرس الجمهوري. فالتحقيق الذي نشرته “الغارديان” أكد بدلائل قاطعة أن الحرس هم من قتلوا أكثر من 50 مدنيا، وأثبتت بالصوت والصورة كذب الرواية الرسمية.
بالمجمل، أي مؤرخ سيكتشف أن الصحافة الغربية، وقليلا من العربية، قدمت الرواية الواقعية. في المقابل، كان الإعلام المصري بمجمله شريكا في الجريمة؛ تحريضا وتعبئة وتغطية عليها.

هل تريد التعليق؟