مقالات

البتراء

باستثناء الترويج للأردن، يصعب القول أن هدفا عمليا مباشرا يتحقق من الاحتفاليات العالمية، ومنها المنتدى الاقتصادي العالمي. صحيح أنها تشكل فرصة لصناع القرار المالي والسياسي في العالم لتبادل الرأي والمشورة، لكن يستحيل على المئات أن يخوضوا في نقاش جدي يخرج بتوصيات ملزمة، بل يؤشرون بعموميات على اتجاهات الاقتصاد والسياسة، في عالم معولم.

لو كنت مكان محافظ العاصمة لما منعت الاجتماع المعارض للمنتدى، فالمعارضة له جزء من صورته عالميا. ومن جماليات المشهد في الأردن أن يكون ثمة معارضة، ولو من حيث الشكل. هنا تروى طرفة حقيقية؛ ففي المنتدى الذي انعقد بعيد نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، أغلقت طريق البحر الميت بسبب احتجاجات عشائرية على نتائج الانتخابات، وصدف ساعتها أن كان صحافي غربي برفقة وزير اقتصادي مهم، فسأله عن سبب إغلاق الطريق، فأخبره جدا بهزل “أنها الحركة المناهضة للعولمة”!

 وإذ تعقد جمعية مناهضة العولمة اجتماعاتها أثناء المنتدى، فإنها تقدم قراءة أخرى للعولمة الاقتصادية وانعكاساتها على بلد نام. وهذه الرؤية النقدية، سواء أكانت هادئة أم صاخبة، تسهم في أنسنة العولمة، وتخفف من غلوائها، تماما كما فعل التحدي الاشتراكي مع الرأسمالية الغربية في القرن الماضي.

وفي السياق ذاته جاء انعقاد مؤتمر البتراء، الذي حمل عنوانا يعقلن المتحمسين للعولمة: “العالم في خطر”. وتحدث المجتمعون، ومنهم 25 من الفائزين بجائزة نوبل، بعناوين لا تختلف كثيرا عن عناوين مناهضي العولمة (الفقر، والتنمية، والسلام، والتعليم..). وبقدر ما حاول المجتمعون تحسين صورة العولمة المشوهة بنظر شعوب العالم النامي، حاول جلالة الملك تحسين صورة الإسلام المشوهة لدى العالم الغربي، من خلال المقاربة بين بيت الحكمة في حضارتنا الإسلامية وبيت الحكمة للمجتمعين في البتراء. وفي الوقت الذي تحدث فيه “فايزل” عن ثقافة الموت والإرهاب، كان توضيح جلالة الملك ضروريا للثقافة الإسلامية، التي ترى أن “من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا”.

لكن الأهم من الاجتماع نفسه هو الترويج للبتراء، التي قال عنها ملك ماليزيا قبل عقدين: “عجبت لبلد عنده البتراء ويشكو من عدم وجود النفط!”. وملتقى كهذا لن يجعل فنادقها تضيق بالسياح، لكنه يسهم في فك الحصار المضروب عليها. فكثير من أبناء وادي موسى، وكثير من المستثمرين خسروا الملايين عندما صدقوا وعود السلام التي أغدقت، عقب توقيع معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية. وقتها اغتنم الإسرائيليون الفرصة، واستولوا على البتراء عمليا في برنامجهم السياحي؛ “ستة أيام في إسرائيل واليوم السابع في البتراء مجانا”!

البتراء تقدم إجابات عن أسئلتنا القلقة. فالعولمة لا تستطيع أن تجرف شعبا يعي تاريخه ويفتخر به. والذين يخشون أن ينبهر أبناؤهم بثقافة الغرب عليهم أن يحدقوا بعيون الكهول الغربيين، وهم واجمون أمام عظمة حضارتنا، ليس في البتراء وحدها، فقاعات فندق موفينبيك، مقر الاجتماع،  تذكر بالفن الأندلسي، معمارا ونقوشا وزخارف، وهو فن باق مع أننا فقدنا الأندلس منذ عقود، ولا يزال الإسبان يعتاشون إلى اليوم مما تبقى من فنون أجدادنا.

باختصار، التاريخ هو ضمانة دخول المستقبل. فكما لا تستطيع أن تتنكر للعولمة، أحببتها أم كرهتها، لا تستطيع التنكر للبتراء والأندلس وبيت الحكمة. وكما نريد لأجيال الناشئة أن يعرفوا العالم من حولهم، عليهم أن يعرفوا ذاتهم أولا. وإلا نغدو كالمنبت “لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى”.

هل تريد التعليق؟