لايمكن القول ان قرار رفع أسعار المحروقات كان له وقع في قلوب المواطنين كوقع رفع العلم الأميركي في بغداد. كما لا يمكن القول انه لم يكن له وقع كارثي نغص حياة الناس، وجعل الحياة العادية عملية صعبة لكثير منهم. وهو قرار لا يمكن تفهمه وتقبله حتى من الذين اتخذوه، ومهما سيق من أعذار، يظل مثل تجرع السم.
أما وقد اتخذ القرار -وهو الأول في سلسلة ستتخذ في الأعوام المقبلة وصولا إلى التحرير الكامل (من البحر إلى النهر!) لأسعار المحروقات كافة حسب سعر السوق، أي سنجد كما شركات الاتصال الخليوي، خدمة أفضل وسعرا أقل! فالمطلوب هو التعامل الإبداعي مع الكارثة التي ستنتج سعرا أعلى وخدمة أقل. فالنفط سلعة تحتكرها الأوبك لا مجال فيها للمنافسة، والمجال الوحيد فيها هو المساعدة فقط لأسباب سياسية.
المشكلة الأساسية في المواصلات. وكما هو معروف، فإن شبكة المواصلات العامة هي شبكة من لا يملك سيارة خاصة؛ أي طلاب المدارس والجامعات والعمال والمسحوقين، ولن تجد واحدا يمتلك سيارة مستعدا لانتظار حافلة أو سيارة عمومية، فأين هي محطات الانتظار التي تقي حر الصيف وبرد الشتاء؟ وأين هي الحافلات النظيفة المرتبة التي بإمكان الإنسان أن يركبها مطمئنا؟
في الدول الحديثة، وبسبب التوسع الهائل للمدن، تشكلت ثقافة المواصلات العامة، بمعنى أنك تقرأ الكتاب والصحيفة وتكون صداقات وشبكة علاقات خاصة في المواصلات العامة. هنا أتحدث عن حافلات تنطلق في مواعيدها، وقطارات ينتظم سيرها. أما عندنا، فيمكن الحديث عن غارات خاطفة، يمتطي فيها ركاب -متدافعون دوما- صهوة حافلات يسودها الازدحام والفوضى. نتحدث عن شبكة موغلة في السرية والتعقيد: كيف تحصل على خط باص؟ ومن يحصل على خط باص؟
شبكة المواصلات العامة يمكن أن تكون محترمة مثل تلك التي في الدول الحديثة، ويمكن دون أن تتكلف الدولة فلسا واحدا بناء شبكة مواصلات تجعل أستاذ الجامعة والضابط والمدير العام ورجل الأعمال يتجاورون في حافلة تقودهم إلى مكان عملهم، دون أن يرتطموا بطالب مدرسة فار من دوامه.
يمكن أن تجد الحكومة ممولا لشبكة قطار الأنفاق على أسس استثمارية، ليس من قبيل الصدقة والمساعدة، وعلى الأقل بإمكانها أن تجد شريكا يسندها ماليا.
المواصلات العامة حل. وثمة حلول فردية. وفي غضون حرب الخليج الثانية، وعندما شح النفط وطبق نظام “الفردي والزوجي”، كانت السيارة الخاصة تتسع لأبناء الجيران بأن يتبادلوا استخدامها. ولو كنت مكان الحكومة لفرضت النظام شهرا على الأقل، لتربية الناس على مفهوم الشراكة والتعاون قسرا.
ومن الحلول، ما تعتمده الصين، العظمى بحق وحقيق. فالدراجة الهوائية وسيلة تنقّل استخدمها آخر الأباطرة، الذي كان يخدمه في المدينة المحرمة زهاء أربعة آلاف مخلوق. وفي بريطانيا، العظمى على رغم ما حل بها من غروب شمسها إلى التفجيرات الأخيرة، لا يزال كثيرون، من بينهم كبار الموظفين يستخدمون الدراجة الهوائية. طبعا نحن في الأردن -في حجم بعض الورد- لكن نعتقد أننا أهم من بريطانيا والصين معا.
وعلى أهمية الإبداعات السالفة الذكر، يظل الإبداع الأساسي ليس في البحث عن منابع النفط ولا منابع الثروات البديلة، وإنما بتجفيف منابع الفساد، وهي منابع قادرة على تجفيف آبار الخليج لو انتقلت عندنا. وكما أثبتت الحكومة صرامة في تنفيذ قرار الرفع الشاق، فعليها أن تثبت جدية في محاربة الفساد من خلال تجفيف منابعه، لا التعامل مع السواقي.
هل تريد التعليق؟