يصعب رصد عمليات النصب الكبرى التي مورست تحت غطاء “التمويل الإسلامي” . وقد لا يكون آخرها حكايات البورصات الوهمية التي قضت على مدخرات كثير من البسطاء وحولتهم إلى منكوبين. وكان من مستلزمات تلك الشركات وجود ” فتوى” أو وكيل طويل اللحية محدود التعليم حتى يقتنع الناس أن استثماراتهم حلال ومباركة. وحتى التجارب الجدية الناجحة للمصارف الإسلامية ظلت في مجملها متخلفة عن ركب المصارف الأخرى.
لم يواجه الإسلام السياسي المسألة الاقتصادية بجرأة وذكاء وواقعية. بل ظل مترددا يحيل الناس إلى إجابات حالمة ملخصها أن اقامة النظام الإسلامي الشامل سيحل مشاكلهم جميعها بما فيها الاقتصاد. ولم يتعبوا أنفسهم بدراسة الاقتصاد الذي يتطور يوميا مكتفين بعموم اللفظ القرآني الذي حرم الربا وفرض الزكاة. وصار المسلمون للخروج من الجدل الشرعي يلجؤون في الغالب إلى الحيل للتخلص من الحرمة. وترك النظام المصرفي العالمي بيد من لا تعنيهم القيم ولا المبادئ الأخلاقية.
المشكلة أساسا تكمن في فهم الإسلام. فهو دين يؤسس في النفس قيما تحكم الحياة وقواعد أخلاقية تضبط المجتمع ويطلق العنان للتطور الإنساني في مختلف العلوم. مشكلة من نادوا بالبديل الإسلامي أنهم دخلوا في متاهة أسلمة تفاصيل الحياة وكأن الناس قد دخلوا الإسلام اليوم . فنشأ المستشفى الإسلامي والمدرسة الإسلامية والمصرف الإسلامي و.. لم يبق إلا الحديقة الإسلامية !
مع الأزمة الاقتصادية العالمية اكتشف الآخرون البديل الإسلامي، وبعد دعوة الفاتيكان إلى الاستفادة من البديل الإسلامي صدرت دراسة عن “خدمة أبحاث الكونجرس” وهي الذراع البحثية للكونجرس تشيد بالبنوك الإسلامية لكونها “أكثر صلابة في مواجهة التراجع الاقتصادي العالمي والأزمة المالية الدولية مقارنة بالبنوك التقليدية”، وأشارت الدراسة إلى اعتقاد كثير من المراقبين بأن “التمويل الإسلامي يمثل عجلة للتعافي من الأزمة المالية الدولية”، كما توقعت الدراسة بأن “تعزز صناعة البنوك الإسلامية مكانتها في السوق الدولي في ظل بحث المستثمرين والشركات عن مصادر بديلة للتمويل” خلال الأزمة الراهنة وفي المستقبل.
ويقول الباحث في الشؤون الأميركية علاء بيومي أن الدراسة سعت إلى “توعية أعضاء الكونجرس بطبيعة التمويل الإسلامي، وبحجم نموه دوليا خلال السنوات الأخيرة، وبانتشاره في الأسواق الأوروبية والأميركية، وببعض المخاوف السياسية التي تثار حوله ليس بسبب طبيعته الاقتصادية ولكن بسبب “الأفكار النمطية السلبية” المنتشرة عن التمويل الإسلامي لدى معارض التمويل الإسلامي في أميركا والدول الغربية”.
قبل الدراسة الأميركية دعت صحيفة الفاتيكان الرسمية المعروفة باسم “أوبسيرفاتوري رومانو” إلى الاستفادة من البديل الإسلامي. وقال المقال المنشور في مجلة “لي أوبسيرفاتوري رومانو” بشأن المصرفية الإسلامية، وهي المجلة شبه الرسمية التي تمثل البابا، وتصدر بصفة أسبوعية، وتغطي نشاطات البابا، وتنشر فيها المقالات التي يحررها كبار رجال الكنيسة الكاثوليكية، بالإضافة إلى الوثائق الرسمية بعد صدورها من الفاتيكان: “وإذا قارنا الأزمة الحالية مع أزمة سنة 1929م لوجدنا ان حجماً هائلاً من السيولة الفائضة موجود لدينا اليوم ولكنه مصاب بالجمود، ولا بد من إرجاعه إلى النشاط وليس أفضل لتحقيق هذه المهمة من إصدار الصكوك. وكذلك الحال بالنسبة للمبادئ الأخلاقية التي تمثل قاعدة للتمويل الإسلامي فإنها قادرة على جعل البنوك قريبة من عملائها، وقريبة إلى الروح الحقيقية للمؤسسة الخدمية، والتي يجب أن تكون السمة الأساسية للعمل البنكي”.
وفي فهم ذكي للمبادئ الإسلامية تقول الصحيفة “وبناء عليه فقد سعى المسلمون في مجال المالية إلى تجنب صناديق الاستثمار البديلة وأسهم الامتياز لأنها جميعاً تؤدي إلى تولد النقود من النقود بصفة صورية”. وتضيف: “ان النقود وسيلة وأداة لتحقيق الإنتاج الحقيقي، هذا مطبق في السندات الإسلامية التي تسمى الصكوك. ان الصكوك مربوطة دائماً بالاستثمار الحقيقي، لتمول، على سبيل المثال، نفقات شق طريق أو إنشاء مبنى ولا تستخدم أبداً لغرض المقامرة وما شابه ذلك”.
وتخلص الصحيفة إلى القول: “نحن نعتقد ان النظام المالي الإسلامي قادر على المساهمة في إعادة تشكيل قواعد النظام المالي الغربي، ونحن نرى اننا نواجه أزمة مالية، لا تقتصر على مسألة شح السيولة لكنها تعاني من أزمة انهيار الثقة بالنظام ذاته. يحتاج النظام المصرفي العالمي إلى أدوات تمكن من إرجاع القيم الأخلاقية إلى مركز الاهتمام مرة أخرى، أدوات تمكن من تعزيز السيولة وكذلك إعادة بناء سمعة نموذج نظام رأسمالي ثبت فشله”.
أمام دعوة الكونجرس والفاتيكان تغدو الكرة في مرمى رجال الأعمال المسلمين لتقديم نماذج عملية لأداء اقتصادي يقوم على القيم والمبادئ. وهو ما يسهم في إنقاذ بلدانهم وإنقاذ البشرية. وبموازاة ذلك نحتاج إلى جهد فكري من الخبراء والمفكرين وعلماء الاقتصاد والشريعة لتقديم البدائل النظرية.
هل تريد التعليق؟