تعتمد صناعة الإعلام عربياً، بمعزل عن مهنيته، على التمويل الحكومي بشكل كبير. ليس العرب استثناء. عالميا، تعتبر هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) تجربةً رائدةً ونموذجية، فالإعلام خدمة عامة كالتعليم، ومن واجب الدولة تأمين المواطنين بأفضل خدمة تعليمية، و”بي بي سي” تعرّف نفسها بأنها تعليمية. وليس المقصود هنا التمويل الحزبي، بل تمويل الدولة المعتمد على دافع الضريبة، من دون انحياز للحزب الحاكم.
وقد تأكد الدور الحكومي بعد انفجار فقاعة منصّات التواصل الاجتماعي باعتبارها بديلا للإعلام. انهيار “بزَ فيد” (BuzzFeed) شاهد واضح على ذلك، بعدما ظلت نموذجا للإعلام الرقمي الصاعد، المعتمد على تقنيات التصوير والبث والكتابة المختصرة التي تواكب الجيل الجديد، بعيدا عن الإعلام التقليدي الذي تعبّر عنه مؤسسات عريقة، مثل صحيفتي واشنطن بوست ونيويورك تايمز وتلفزيوني إيه بي سي وسي بي أس.
راهن كثيرون على أن مؤسسات الإعلام الرقمي الصاعدة ستتقاسم أرباح شركات منصّات التواصل، وستتمكّن من تحقيق استقلالية مالية تمكّنها من بناء صناعةٍ إعلاميةٍ تتفوّق على ما سبقها من إعلام تقليدي. ما حصل هو العكس في الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني 2019)، إذ فُقدت ألفا وظيفة في تلك المؤسسات، بحسب مقال عنوانه “السوق الحرّة تقتل الصحافة الرقمية”، نشرته صحيفة “ذا غارديان”، للمتخصّصة في الإعلام الرقمي في جامعة كولومبيا إميلي بيل، والتي أوضحت أن “كبار مزوّدي الأخبار عبر الإنترنت يلجأون إلى إزاحة الموظفين بأعداد كبيرة، في وقت تبتلع شركات الإعلام الاجتماعي إيرادات الإعلانات”. والأخبار السيئة، بحسب بيل، ليست في الشهر الماضي بقدر ما تمتد إلى العقد الماضي “لا سيما في الصحافة المحلية والإقليمية في الولايات المتحدة، كان العقد الماضي كارثيا. بين عامي 2008 و2017، انخفض عدد وظائف غرفة الأخبار في الصحف الأميركية بنسبة 45%”.
يحدث هذا في أميركا، البلد الذي شهد ميلاد صناعة الإعلام، وخصوصا المرئي والرقمي. قد يكون الحال في بريطانيا أفضل بسبب تمويل الدولة “بي بي سي”، والتي نجحت في التحوّل الرقمي، وبناء المنصّات الرقمية. كما أن الصحافة البريطانية نجحت في ذلك أيضا، وتمكّنت من إيجاد المعادلة الصحيحة في الحفاظ على تقاليد الصحافة وقيمها والوجود على المنصات الرقمية.
قد يكون صحيحا أن السوق الحرّة تقتل الإعلام الرقمي، لكن هذا ينطبق على الإعلام عموما، كما ينطبق على التعليم والصحة وباقي الخدمات. والحل الأمثل هو تمويل الدولة وفق نموذج “بي بي سي”، فما يحتاجه الإعلام الحر الذي يقدّم خدمة عامة للمواطن جزءٌ لا يذكر من ميزانيات الدول، قياسا بميزانية الدفاع أو التعليم، وهذا لا يعني بحال أن يتبع سياسةً حكوميةً بعينها. وفي بريطانيا نجد كيف تعاملت “بي بي سي” باستقلالية في ظل الاستقطاب الحاد بين الحكومة والمعارضة بشأن الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست).
عربيا، قدمت قناة الجزيرة، بمعزل عن الانتقادات الموجّهة لها، صناعةً إعلامية هي الأفضل. وما كان ذلك ليتحقق لو اعتمد على القطاع الخاص. والقنوات المنافسة لها، “العربية” و”سكاي نيوز” وغيرهما، اعتمدت أيضا على التمويل الحكومي. وهذا ليس جديدا، سبقتها الصحف المطبوعة، مثل الأهرام في مصر، والحياة والشرق الأوسط وغيرها. وفي حقبة الثمانينيات، شهدنا تنافسا بين السعودية والعراق وليبيا على الصحافة المطبوعة في لندن وباريس.
غير صحيحٍ أن تحرير الإعلام من التمويل الحكومي يجعله أفضل، فالتجارب في مصر ولبنان والأردن وغيرها لا تشجع. المطلوب زيادة التمويل الحكومي، مع الارتقاء في المعايير المهنية. ولعل أسوأ أشكال التمويل هو ذلك المتربط بأجهزة الأمن، كالحال في مصر، تحت ستار شركات القطاع الخاص. مع أن تاريخ الصحافة عربيا يشير إلى دور القطاع الخاص، فصحيفة الأهرام بدأت خاصّة ثم تأممت، وفي الأردن كذلك صحيفتا الدستور والرأي، والمفارقة أن القطاع الصحافي الخاص استنجد بالدولة لإنقاذه، كما في تجربة صحيفة الدستور.
وثمّة صيغ أخرى غير الدعم المباشر من خزانة الدولة، مثل الإعفاءات الضريبية والإعلانات الحكومية، والشركات غير الربحية، والوقفيات، وذلك بناء على قاعدةٍ بسيطة، أن من حق المواطن أن يعرف ويتلقى معلومةً صحيحةً تماماً، كما أن من حقه أن يأكل طعاما صحيا غير مسموم.
هل تريد التعليق؟