مقالات

الجامعة الأردنية التي كانت

ما الذي يجمع هوشيار زيباري الكردي وزير خارجية العراق بأحمد داود أوغلو وزير الخارجية التركي بوضاح خنفر المدير العام السابق لقناة الجزيرة بنايف كريم المدير العام السابق لقناة المنار؟ لا يجمع كل هذه التناقضات إلا أنهم جميعا درسوا في الجامعة الأردنية. تلك الجامعة التي عبّرت عن هوية الأردن المفتوحة التي تراهن على التقدم في نوعية الحياة الإنسانية تعليما وصحة مدخلا للتأثير والاستقطاب.
ذلك التنوع الهائل خارجيا انسجم مع نظيره محليا. فكانت الجامعة تضم أبناء البلاد في الضفتين لا يقدمهم غير تفوقهم. وفي هيئتها التدريسية ضمت البريطاني الذي أسس كلية الطب والسوري والعراقي والأردني والفلسطيني. من كان يجرؤ على سؤال عالم الشام مصطفى الزرقا من أين جئت أو يشكك في مكانة عبد العزيز الدوري لأنه عراقي؟ من كان يفكر بعقلية التخلف أن الجامعة لأبناء البلد؟
حدّثنا الدكتور أحمد أبوهلال، رحمه الله، وهو من أبوديس وكان قد درّس والدي في الماجستير، أنه عندما فكّر ببناء بيته قرب الجامعة، رفض صاحب الأرض قبض ثمنها إلا بعد إصرار، فقد كان ينظر إلى أن سكنى أستاذ جامعي في المنطقة تكريم ما بعده تكريم. فالجامعة لم تكن غير بقية مدرسة زراعية بنيت في مستنبت زرعه الإنجليز، وذلك المبنى كان مرشحا للانهيار لولا أن فزع له مصطفى الحمارنة وجلب له التمويل المحلي والدولي لترميمه وليكون مقرا لمركز الدراسات الاستراتيجية.
تلك الغابة التي ظلت تضج بالتنوع بأشكاله كافة في هيئة التدريس، والطلاب من مختلف المشارب والمنابت جغرافيا وفكريا وسياسيا، تحولت بفعل الهيمنة الأمنية إلى “واجهات عشائرية” تحترب لتوافه الأمور. ولم تعد الجامعة حاضنة للعلم والعلماء وساحة صراع فكري وسياسي.
عندما أسست الجامعة كان البلد فقيرا، ولم تبنَ بعقلية “البزنس” وتلبية متطلبات السوق، وهذه بالمناسبة ليست غاية الجامعات، أسست الجامعة لبناء مجتمع العلم والمعرفة، ومنحت الاستقلالية قبل المال. ومؤسسو الجامعة لديهم كثير من الروايات عن حرص الملك الحسين على حماية استقلاليتهم، وكان يتقبل رفضهم لطلبات يستأذنهم في قبولها.
الحصانة العلمية للجامعات هي التي تمكنها من تقرير ما تريد وفق أولوياتها، لا وفق المزاج أو تقلبات الشارع أو متطلبات السوق.
وصل الأمر برئيس اتحاد طلبة فرضه إرادته على رئيس الجامعة، وحتى لو كان رئيس اتحاد طلبة منتخبا بنزاهة، فمحرم عليه الاقتراب من رئاسة أكاديمية جليلة لا يملي عليها غير ضميرها العلمي. وما هو أسوأ من ذلك كله تطبيق أسوأ نظريات “البزنس” على الجامعة وكأنها مطعم يبتذل نفسه لإرضاء أذواق الزبائن. لسنا استثناء؛ في العالم توجد قوانين وَقْف تؤمن للجامعة دخلا ويوجد دعم مباشر من خزانة الدولة، وتوجد مشاريع مع شركات وغير ذلك. لكن ليست وظيفة الجامعة التسويق والتمويل.
في ذكرى الجامعة الأردنية نحتاج لمراجعة جدية للتعليم العالي، وبعد نصف قرن نحتاج إلى العودة مجددا إلى العقلية التي بنت جامعة بلا موارد بالجد والتصميم والنزاهة والمثابرة، وذلك الجيل ما تزال منه بقية ، قادرة إن توافرت الإرادة السياسية على تجديد قصة النجاح التي توشك أن تتحول إلى قصة فشل.

هل تريد التعليق؟