بقدر ما كان غياب القيادة والتنظيم ميزة للحراك تحول إلى مشكلة. فنجاح الحراك في إسقاط بوتفليقة لم يتبعه نجاح في بناء النظام الديمقراطي الجديد. ونشأ استقطاب جديد بين من يقدسون الشارع المعبر عن قيم الحرية ومن يقدسون الجيش المعبر عن قيم الاستقرار. وبدلاً من أن يتحول الحراك إلى دائن يسترد دين الديمقراطية بالتقسيط أعفى السلطة من الديون وفوائدها لأنها لا تدفع الدين كاملاً وعاجلاً.
يتمتع الحراك بالبراءة بقدر ما تتمتع السلطة بالدهاء. فالشباب الذين يحتشدون بالشوارع مفعمين بأشواق الحرية، تنقصهم خبرة من يجلسون وراء المكاتب المغلقة. والسلطة ليست العصابة، هي الدولة العميقة بأذرعها الطويلة؛ الجيش والأجهزة الأمنية والإدارات وما تملكه من إمكانات وكوادر وعلاقات محلية ودولية. والسلطة ليست منافع ومطامع فقط، هي مسؤوليات كبرى أيضاً.
من الظلم وصف السلطة بالعصابة، توجد عصابة داخل السلطة، تتسع إلى مئات من الفاسدين وأصحاب المصالح الشخصية، وتتقلص إلى عشرات من الرموز الفاسدة التي اعتقلت. تحتاج الجزائر إلى السلطة بمعنى مؤسسات الدولة تماماً كحاجتها للحراك في الشارع. وتفكيك الدولة وهدم بنيانها باسم الثورة، سينتج في أحسن الأحوال نظاماً كالنظام البلشفي أو الإيراني، مع فارق جوهري أن الحراك مبرأ من القيادة والتنظيم.
السلطة في الجزائر فشلت في الوصول إلى صفقة مع الحراك، ربما بسوء نية إذا افترضنا أنها سعت إلى فرض أمر واقع من خلال انتخابات “مهندسة” أو بحسن نية من خلال المضي بالإجراءات الدستورية في ظل غياب قيادة للحراك يمكن التفاوض معها والوصول إلى إجراءات متفق عليها.
الانتخابات ستجرى في 12/12 المقبل، والسؤال عن اليوم التالي: هل سيفوز مرشح من الجولة الأولى؟ مستبعد، في الجولة الثانية هل سيحظى الرئيس بالشرعية؟ نعم ولكن منقوصة في ظل رفض الحراك للانتخابات وارتفاع نسبة المقاطعة كما هو متوقع.
التوقعات تشير إلى ابن فليس وتبون، وحديثاً جرى تداول ميهوبي باعتباره مرشحاً لحزب الأفلان. وهو ما قد يعزز فرصه. كما أن ابن قرينة الذي يقود فصيلاً إخوانياً له ماكينة انتخابية فاعلة، لكن من المستبعد وصول إخواني للرئاسة. ليس لدى الجيش فيتو على المرشحين الخمسة، لكن مراقبين يرونه أقرب إلى تبون، وربما ميهوبي مؤخراً. يبقى ابن فليس الأقرب للحراك.
من المهم أن يخطو الحراك أو جزء منه خطوة، أو قيادات فيه، خطوات باتجاه المرشحين، وأن يكون الدعم مشروطاً ببرنامج انتقالي، وسيكون تاريخياً لو حصل في الوقت الضائع حوار مع مكونات السلطة وعلى رأسها الجيش، بحيث تكون الانتخابات خطوة للأمام بمعزل عن الفائز لا خطوة للوراء.
ليس تخويفاً، المعلومات تتواتر عن التآمر على الجزائر، بما تمثله من ثقل جغرافي وسكاني وتاريخ وثروات ومواقف. فرنسا وإسرائيل ودول الثورة المضادة تشعر بالرعب من الجزائر، والفراغ في رأس السلطة يسمح بتوسيع الشق مع الأمازيغ، وافتعال فتنة الهوية مع العروبة والقيم النوفمبرية.
الرد على التآمر هو ببناء جسور الثقة بين الحراك والجيش وليس بهدمها، هذا يتطلب كأي جسر البناء على قاعدتين، من الممكن في الوقت الضائع المتبقي أن يؤكد الجيش حياده، ومن المهم أن يستمر الحوار من الحراك والنخب السياسية لرفع نسبة المشاركة، والوصول مع المرشحين إلى برنامج انتقال ديمقراطي.
طلب دين الديمقراطية عاجلاً كاملاً، سيحولها ديناً معدوماً لا قيمة له. لا بد من فترة سماح وتقسيط يراعي ظروف السداد. الجزائر أكثر بلد في العالم دفع كلفة الجرعة الزائدة من الديموقراطية قبل بناء مؤسساتها ونشر ثقافتها. المأمول أن تبدأ الصفقة التاريخية يوم 12/12 بمعزل عن اسم الرئيس الفائز، والذي لا يعرف الجزائريون من هو حقيقة. تماماً كما يعرفون أن العصابة لم تملك فرض بوتفليقة في عهدة خامسة.
هل تريد التعليق؟