عندما ظهرت قناة “الحرة” نظر لها أكثرية الصحافيين العرب باعتبارها بوقا للإدارة الأميركية. ونأت الأكثرية الساحقة من الصحافيين عنها حتى لا توصم بالعمالة. قلة اضطرتهم ظروفهم للعمل في المحطة “المعادية” للأمة. وبعض من عملوا كانوا من فئات تعادي مبدئيا العرب والمسلمين لأسباب لها علاقة بالاستلاب الثقافي أو التعصب الطائفي. بدا ذلك واضحا بالشيعية السياسية عراقيا والمارونية السياسية لبنانيا.
تلك الفئات المستلبة كانت تحمل إيديولوجيا المحافظين الجدد رغبا، وطاوعها الكثير في أدلجتها رهبا، وفي كثير من المرات كانت المحطة مثيرة للسخرية، فمراسلتها أمام البيت الأبيض في يوم تنصيب بوش لم تتمالك نفسها وصفقت لموكب الرئيس عندما مر من أمامها مخالفة أبسط قواعد المهنية، وكأنها في التلفزيون العراقي أيام صدام حسين.
تبددت الملايين التي أنفقت على “الحرة” ولم تحظ بمستوى مشاهدة يذكر، كما كشفت كثير من استطلاعات الرأي بما فيها الأميركية. أمام الفشل اضطر المشرفون على القناة إيجاد حل مهني. عُين مدير جديد لها مشهود له بالمهنية والكفاية على مستوى عالمي وفوق ذلك أميركي. لاري ريجستر قبل تعيينه مديرا للحرة كان نائب رئيس شبكة أخبار سي ان ان. وهو مخضرم في قضايا المنطقة.
عمل مديرا لمكتب سي ان ان في القدس وغطى الانتفاضة الأولى ومحادثات السلام من أوسلو إلى واي ريفر وقابل زعماء المنطقة الأسد ورابين ونتنياهو وغطى في بغداد، وكان مسؤولا للتغطيات الخاصة للشبكة العالمية، وحصل على جوائز لتغطياته العالمية مثل تغطية انتفاضة الطلاب في الصين.
عمل ريجستر في “الحرة” كشف أن مشكلة الإدارة الأميركية هي مع الإعلام المهني، فكل إعلام مهني في ما خص العرب والمسلمين هو منحاز ضد الإدارة الأميركية ومتعاطف مع “الإرهاب”. مشكلة ريجستر أنه بث على الهواء خطابا لزعيم منظمة مصنفة على قوائم الإرهاب الأميركية؛ فبحسب صحيفة النهار اللبنانية انتقدت وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس قرار مديرها الجديد لاري ريجستر بث خطاب حي للامين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله نصف ساعة، واشارت الى ان ريجستر اعترف بخطئه.
وكان ريجستر تعرض لانتقادات من داخل “الحرة” وخارجها لأنه يبث خطب شخصيات اسلامية مناوئة لأميركا، مثل نصرالله ورئيس الوزراء الفلسطيني اسماعيل هنية، وللطريقة التي غطى بها مؤتمر طهران الذي شكك في المحرقة النازية ضد اليهود، ولأنه طلب من مذيعي المحطة أن يضيفوا بعد كل اشارة الى النبي محمد، عبارة “صلى الله عليه وسلم”.
وقالت رايس: “حاولنا تطوير الحرة لتصير محطة تلفزيونية اخبارية اكثر، لأن اخبار الفضائيات العربية الاخرى منحازة جدا بصراحة”. لكنها اضافت ان اي محطة اخبارية ستبث مقتطفات لنصرالله او لهنية، كما تفعل المحطات الاميركية و”ما نأمل في ان تفعله الحرة خصوصا اذا نجحت في ان تصير صوتا شرعيا للحقيقة، كما فعل راديو اوروبا الحرة خلال الحرب الباردة، هو ان توفر اخبارا من نوع مختلف”.
وأشارت رايس أنّ نسبة البرامج التي تناقش السياسة الأميركية في الحرة قد ارتفعت نقطة، بينما ارتفعت نسبة البث المباشر واخبار السياسة الاميركية 178 نقطة. و”سوف ترون على الحرة لقطة لنصر الله، لكنكم ستشاهدونني في مقابلة، او ستشاهدون خطابا للرئيس (جورج) بوش، لاننا نصل عبر ذلك الى العالم… اعتقد ان محطاتنا يجب الا تبدو وكأنها تؤيد السياسة الاميركية فقط. ونظرا الى طبيعة فضائية الجزيرة على سبيل المثال، يجب علينا ان نواجه بمحطة توفر الفرصة لشرح السياسة الاميركية وسماعها”.
إذن ثمة اعتراف ضمني بأن مواجهة “الجزيرة” لا تكون إلا بالتعامل مع الرأي الآخر حتى لو كان مصنفا على قوائم الإرهاب. الخلاف هو كم يعطى “الإرهاب” فرصة للظهور. هل ينقل على الهواء؟ أم يؤخذ اقتباس؟ وكم مدة الاقتباس؟ الخلاف على التفاصيل لا على المبدأ. ولو أن الجزيرة محطة أميركية لما تجرأ مسؤول أميركي بوصمها بالإرهاب.
للتاريخ؛ أول من قابل بن لادن تلفزيوينا كانت التلفزيونات الأميركية السي إن إن والأي بي سي، ولم يتهم الإعلاميون الأميركيون بالترويج للإرهاب. وبعد الحادي عشر من سبتمبر لم تتوقف وسائل الإعلام الأميركية عن الاقتباس والنقل عن بن لادن عندما تعذر عليها مقابلته.
المشكلة ليست في لاري ريجستر ولا في سي ان ان ولا أي بي سي ولا الجزيرة المشكلة في الإدارة الأميركية التي تكرر أخطاء المسؤولين العرب بإلقاء اللائمة على الإعلام كلما أمعنوا في الفشل!
هل تريد التعليق؟