مقالات

“السعودية العظمى” أو “تاسع أقوى بلد..”

بعد أفول الإمبراطوريات التقليدية بعد الحرب العالمية الثانية، برز مصطلح الدول العظمى، وهي الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، الوريث الطبيعي للتاريخ الإمبراطوري. ومع أن دولاً كثيرة تحتجّ على الانتقائية، وتطالب بإضافة قوىً غير القوة النووية، مثل الاقتصاد والموقع والمساحة والسكان، ظلت الدول الخمس تحتكر قوة تنفيذ القانون الدولي، والقدرة على تعطيله إن شاءت.
ربما كان معمر القذافي سبّاقاً في كسر احتكار التسمية، عندما سمّى بلاده “العظمى”، وكانت تلك من أعاجيب الزعيم الثوري التي قلّدها الذباب الإلكتروني في السعودية، وهو يعبّر عن مركز القرار السعودي بوجهه الحقيقي المجرّد من اللياقات الرسمية، فما يخطر على بال ولي العهد الحاكم الحقيقي، يحوّله “مركز اعتدال” الذي يضم ثلاثة آلاف متفرغ على المنصات إلى ترند سعودي وعالمي. في السنة الماضية، خرج بترند “السعودية العظمى”، والأسبوع الماضي خرج بـ “تاسع أقوى بلد في العالم”.
لا تحتاج السعودية إلى استطلاع رأيٍ تجريه صحيفة أميركية (يو أس نيوز)، حتى تثبت أنها تاسع قوة في العالم، والمهم أن تبني فعلاً بلداً قوياً بمعزل عن استطلاعات الرأي التي تنشر معاييرها وترتيب الدول. وهذا لو نشر، سيكون محرجاً للسعودية. بالرجوع إلى الصحيفة التي تنشر استطلاعاتٍ مفيدة، نجد أحدث استطلاعات تحت عنوانين “أفضل دول” و”أقوى دول”، ومعايير القوة لا تعني بالضرورة أن تكون فاعلةً واقعياً، فكلنا يتذكّر الحديث عن العراق بوصفه رابع أقوى جيش في العالم، لكن الجيش العراقي دمّر بعد ذلك، وكانت قوته عبئاً عليه.
في المعايير التي تتصدّر الصفحة تقول “إن أقوى الدول في العالم هي الدول التي تهيمن باستمرار على عناوين الأخبار، وتشغل صناع السياسة وتشكل الأنماط الاقتصادية العالمية. يتم تعقب سياساتها الخارجية والميزانيات العسكرية”. ولذا تتقدّم عليها الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا واليابان وإسرائيل، وتتأخر عنها إيران، إذ لا يمكن المقارنة بين ميزانيتي الدفاع الإيرانية والسعودية، الأعلى عالمياً، ودولة نووية مثل باكستان تحتل المرتبة 22. الطريف في المعايير أن قطر جاء ترتيبها 24 متقدّمة على مصر التي جاءت في الترتيب 29 وفق الاستطلاع نفسه، مع أن الأخيرة تمتلك أكبر جيش في المنطقة! المحرج أكثر في الاستطلاع هو أفضل الدول، وليس أقواها، إذ تقدّمت قطر على السعودية، وجاءت في ترتيب 31، والسعودية في ترتيب 32، فهل يطلق القطريون وسم “قطر أفضل من السعودية”؟
من حق السعوديين أن يفخروا بوطنهم، ولدى الإنسان السعودي منجزاتٌ حققها باجتهاده وتعبه وإرثه، غير أن الاعتداد الوطني المشروع تحوّل لدى النخبة الجديدة الحاكمة إلى شوفينية مرضية، ليس ادّعاءً لإنجازاتٍ لم تتحقق، وإنما تغطيةً على كوارث حصلت، فالسعودية تشغل عناوين الأخبار صحيح، كما في الاستطلاع، لكن ما هي العناوين؟ أي دارسٍ مبتدئ يشتغل على محرّك بحث غوغل سيُصدم بحجم العناوين السيئة في الصحافة العالمية، سواء في حرب اليمن أم الاعتقالات أم حصار قطر أم جريمة اغتيال جمال خاشقجي، فهل هذه قوة؟
مع أن السعودية تمر في أسوأ أحوالها في علاقاتها مع جوارها، أو حلفائها الغربيين، وتشهد أسوأ انتهاكاتٍ بحق السعوديين المعارضين للحكومة، وسط تململٍ لا يعرف مداه، إلا أن ذلك لا يعني أن البلد فقد أهميته الاستراتيجية، خليجياً وعربياً وإسلامياً وعالمياً. على العكس، فقوة بلدٍ، مثل روسيا، برزت في ظل العقوبات وقانون ماجنتيسكي الذي حمل اسم رجل الأعمال الذي صفاه رجل الكرملين القوي.
ولا شك أن الانتقادات التي توجه للمملكة، وخصوصاً بعد “عاصفة الحزم”، وحصار قطر، وجريمة اغتيال جمال خاشقجي، هزّت مكانة المملكة بشكلٍ لا يمكن إصلاحه، فقد تحولت من بلدٍ محافظٍ بسياسةٍ تقليديةٍ رتيبةٍ إلى بلد مغامر فاقد للاتزان، يوشك أن يقع في خانة الدول المارقة الخارجة على القانون الدولي، وغير الخاضع للأعراف السياسية.
نتمنّى أن تكون السعودية عظمى وأقوى دولة في المنطقة، لكن ذلك لا يتحقق بهاشتاغ، ولا باستطلاع. يتحقق عندما تدرك حجم الكوارث التي ارتكبها “العهد الجديد” وتُصلحها، وهذا ممكنٌ، في حين أنّ استمرار تلك الكوارث يذكّرنا بحكاية رابع أقوى جيش في العالم.

هل تريد التعليق؟