يحتاج الباحثون والصحافيون العرب إلى سنوات من البحث لرسم صورة دقيقة لمنشأ ومآل الثورة العربية الحديثة التي انطلقت شرارتها في تونس. وكم كانت خيبتي كبيرة عندما اعتقلت في مطار القاهرة ليلة جمعة الغضب، ولم أكن أرى ملامح القاهرة في أجمل أيامها. وما عزّاني وجودي في تونس وسط الشباب أصحاب السابقة الذين فتحوا باب المستقبل لنا ولمن بعدنا.
على “الفيس بوك” وفي الاتصالات تابعت الثورة المصرية، وكنت محظوظا بقدوم الصديق محمد المصري إلى تونس بعد جولة بحثية في القاهرة. وهو بالمناسبة كان في تونس أيام المدرسة وفي الأردن أيام الجامعة شيوعيا تروتسكيا، وغادر العمل الحزبي وأكمل الدكتوراه في بريطانيا وظل وفيا لمبادئ العدالة والحرية. ولم أجد نظيرا له في العالم العربي في قراءة ماركس وفهمه.
قارنت مع المصري بين الثورتين التونسية والمصرية، المشترك بينهما هو “الشبكة” أداة تحرك وتأطير وتفكير غير مسبوقة في العالم. وتمكنت البنى التقليدية الحزبية والطلابية من التكيف مع المعطيات الجديدة. التجمعات التي دعت للتحرك، بحسب المصري، تتنوع بين ذوي خلفيات يسارية وقومية وليبرالية وإسلامية، لكنها جميعا كانت تدرك الثقل التنظيمي للإخوان المسلمين.
وهم على اتصال وثيق ودائم مع شباب الإخوان ولا يشعرون بعقد تجاههم، بمن فيهم الأقباط. ضغط شباب الإخوان على قياداتهم للسماح لهم بالمشاركة، إذ كانت القيادة تخشى التورط في عمل تدرك حجم عواقبه ولا تدرك ماهيته ومن يقف وراءه. انتزع الشباب قرارا يسمح بالمشاركة أفرادا. لكن الهيئات الشبابية كانت تسعى إلى تأمين مشاركة تنظيمية، وهو ما تم من خلال تأمين 200 شاب كتنظيم فقط، مع من رغب بشكل فردي. كان هذا العدد حاسما بالنسبة لـ” الشبكة” واعتبر كافيا. تفاجأ الجميع بنوعية وحجم المشاركة. وهو ما شكل الضغط الأساسي على قيادة الجماعة التي شاركت بكامل ثقلها في جمعة الغضب. ويؤكد المصري نقلا عن الشباب اليساريين والليبراليين والأقباط ما أعلنه نجيب سويرس على التلفزيون أن شباب الإخوان هم من تصدى لهجوم البلطجية في “موقعة الجمل”. في “الشبكة” تذوب كل التنظيمات والأيديولوجيات، ويتفاعل الجميع بملامح متشابهة.
في أسوأ صور الإيديولوجيا الحكم المسبق على الواقع. أن تراه كما تحبه لا كما هو. ومن الواضح أن أصحاب الإيديولوجيات من إسلاميين وقوميين ويساريين، في تونس ومصر وغيرهما، واقعيون في تحالفهم في مجلس حماية الثورة وفي ساحة القصبة وميدان التحرير، ولكن ثمة دوغمائيين في أيديولوجيا عداء الأيديولوجيا، اكتشفوا الدنيا في آخر شهرين، ولم يجهدوا أنفسهم لا في قراءة ولا كتابة ولا في النضال، يسترخون من بعيد ويرسمون صورة الثورة على شاكلتهم، فينتشون بنرجسية ها نحن نملأ الساحات. (ربما غادروا ساحة التحرير وقت خطبة الشيخ القرضاوي من دون أن نلحظهم). وهم ذاتهم من عملوا في لجنة السياسات مع جيل “الشباب” بقيادة جمال مبارك! فهو من أوائل المبشرين بـ” الفكر الجديد” وألد أعداء الإيديولوجيا. ابقوا مسترخين أفضل. وبانتظار تنصيبكم رسميا أوصياء على الأجيال قديمها وحديثها.
هل تريد التعليق؟