لم تتفتح أزهار الربيع العربي في تونس صدفة. فالشعب العظيم راكم وعيا ومعرفة وتعليما إلى جوار فداء وتضحية ونضال. ذلك كله انفجر ثورة مجيدة في لحظة تاريخية نادرة. لم يكن ثمة قائد ملهم، الشعب كله انخرط في مواجهة ضد الفئة الفاسدة المستبدة المعزولة.
على عظم تضحيات حركة النهضة، التي لا يوازيها تضحية نوعا وكما، فإنها لم تحتكر التضحية ولم تدع تمثيل الثورة. لكن كرم الشعب التونسي معها دليل أصالته. جلت معظم تونس في غضون شهرين، وكنت ألاحظ حجم التعاطف الإنساني مع مناضليها. وكنت أقول للزميل حازم الأمين من الحياة، إن التعاطف مع الضحية سيكون الحاسم في التصويت. كان يساجلني أن جيل الثورة لا علاقة له بالنهضة وشيوخها.
على “الفيسبوك” احتفظت بصداقات من جيل الثورة، لم يكونوا من النهضة وقت الثورة. حمدة الطالب في المعلوماتية، راقية طالبة الطب في صفاقس، وغيرهما، في غضون الانتخابات كانت شعارات النهضة تحتل صفحاتهم. تأكدت أن الانتصار الحقيقي للنهضة أنها بنت جسرا مع هؤلاء الشباب الذين يمتلئون وعيا وحماسة وشجاعة.
لم أفاجأ باكتساح النهضة، فاجأتني خسارة حزب العمال الشيوعي. غادة التريكي الناشطة في الحزب دعت لثورة ثقافية، وملأت صفحاتها بالاحتجاج، وخصوصا على فوز الأفاق الهاشمي الحامدي وخسارة مناضلي الحزب. محزن أن يخسر حزب مبدئي ويفوز نصاب من متساقطي النهضة راهن على العشائرية والمال السياسي لبقايا حزب التجمع الدستوري. لكن هذا يكشف أن حجم النصب والاحتيال والمال السياسي والإعلام لا يغير خريطة الانتخابات.
مشكلة الحزب أنه يمارس مبدئية تقارب التحجر، فقد نصح الغنوشي والمرزوقي حليفهما همة الحمامي تغيير اسم الحزب وأبى، مع أن النهضة استبدلت اسم “الاتجاه الإسلامي” من زمن. ومعظم الأحزاب الشيوعية غيرت اسمها. ولكن يظل المناضل مناضلا ولو لم يحصل على وزن انتخابي. وهذا لا يقلل من أهمية حضور الحزب ونضالاته.
كل نظريات المصابين بـ”رهاب الإسلاميين” سقطت في تونس. فهم كانوا محرومين من المساجد ومن الجمعيات الخيرية ومن الإعلام، وإلى اليوم تهيمن على الإعلام التونسي نخب علمانية ويسارية معادية لهم. والقول بالتصويت الاحتجاجي على عهد بن علي كان يمكن أن يذهب إلى حزب العمال الشيوعي أو المؤتمر أو التكتل، عندما تصوت الأكثرية الساحقة للنهضة فهذا أبعد من الاحتجاج.
تصب روافد التعاطف والاحتجاج والانتشار التنظيمي والدين وغير ذلك في نهر الفوز، لكن الرافد الأهم هو أن النهضة لها برنامج، وبرنامج اقتصادي. هنا أقتبس من الدكتور إبراهيم سيف، الباحث في كارنيغي؛ فبعد دراسة معمقة مسحت البرامج الاقتصادية للأحزاب العربية، خرج بنتيجة أن النهضة لديها أفضل برنامج اقتصادي في الأحزاب العربية. الشعب التونسي أصيل ويقدر التضحيات، لكنه واع أيضا ويقدر البرنامج، ومنتم لهويته الحضارية العربية الإسلامية التي شعر أنها مستهدفة. مقابل كل ذلك وصفته “القطب الحداثي” و”المفكرة” ألفه يوسف بأنه “جاهل” لأنه انتخب النهضة. مشكلة هؤلاء المرضى أنهم لا يذهبون لمصحات نفسية بل يقدمون باعتبارهم مفكرين وسط شعب جاهل. تونس عاقبتهم وأخرجتهم من المعادلة قبل أن تكافئ النهضة. والعاقبة لباقي الشعوب.
هل تريد التعليق؟