لا توجد مهن مقدسة، كل المهن التي يعتاش منها البشر عرضة للنقد والمساءلة، ليس في ذلك فرق بين الصحافي والمهندس ورجل الأمن والقاضي والمعلم. وفي المؤسسات العسكرية مجالس تأديب وفي القضاء كذلك، وفي نقابة الصحفيين أيضا. وحرية التعبير لا تعني تقديس الصحافي وتنزيهه عن المراجعة والمحاسبة، وإلا غدت سلطة الصحافة مطلقة، وكل “سلطة مطلقة مفسدة مطلقة”.
توجد أزمة قيم أسبابها اقتصادية واجتماعية وتربوية، والصحافة جزء منها. وحل الأزمة لا يكون بالتضحية بهامش حرية التعبير المكتسب، بل ببناء قيمي وتشريعي، فلو عادت الأحكام العرفية وصدر قرار دفاع بإغلاق المواقع الإلكترونية لظهرت مواقع من بلدان أخرى تتحدث بلغة أشد وأقسى. وهذا نشهده في تجارب البلدان الشمولية مثل إيران وكوبا وغيرهما. فالعالم الافتراضي لا يعرف حدودا.
ولا تحل أزمة القيم بقرارات. إنها تبدأ من البيت عندما يتعلم الإنسان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، ولا يقبل أن يطعم نفسه وأولاده حراما، عندما يتربى على أن الشرف قيمة لا تقدر بقيمة، ومن يتحلى بها يفخر بنفسه أكثر من ساكن قصر أو راكب أفخم سيارة. إن الانحطاط لا تراه في الفاسدين وإنما في تلك الحفاوة التي يحيطهم المجتمع بها، فتراهم يتصدرون ويقدمون ويقصدون، والصحافة الفضائية والإلكترونية والورقية والمسموعة شريكة بذلك، ليس في الأردن وحده. قال لي صديق لبناني إن راتب الصحافي عندهم كراتب نادل المطعم، لكنه يغدو مقبولا عندما يربط بالإكرامية “التب” فتجد كل عصابة من عصابات الحكم في لبنان تكافئ أعوانها من الصحافة التي غدت مهنة ارتزاق لا تضحية، إلا من رحم ربي!
أتاحت الصحافة الإلكترونية فضاء حرا للأصوات المهمشة، وخلقت جو منافسة طور الصحافة التقليدية، وأتاحت امكانيات التفاعل والتعليق إمكانية المشاركة المباشرة للقارئ العادي سواء في إبداء رأيه أو تقديم خبر ومعلومة، هذا كسب للصحافة كلها لا يجوز التفريط فيه.
في المقابل وفي ظل أزمة القيم وقصور التشريعات وجدت العناصر الفاسدة، وهي موجودة في كل وسائل الإعلام ورقيا أم الكترونيا أم غيره، طريقا سهلا للابتزاز والبلطجة من خلال الفضاء الإلكتروني العصي على التحكم.
نبع الإنترنت موجود في أميركا، ومع ذلك هي الدولة الأكثر تضررا من الاستخدام الخاطئ للنت، وهي قادرة على قطع روافده عن أي بلد، ومع ذلك وجدت مصلحتها في تزويد الدول المارقة بمقياسها بالخدمة لأن النتيجة في النهاية لمصلحتها، ليس على مستوى الدولة والأمن القومي، بل على مستوى الفرد، كما حصل مع مدونة مشهورة ادعت صاحبتها أنها تعمل في الكونجرس وأخذت تشهّر بأعضائه والعاملين فيه. نحتاج إلى إعلاء قيم الاستقامة والنزاهة والشرف من خلال الأسرة والتربية، تماما كما نحتاج إلى التشريعات سواء من خلال التشريعات الأخلاقية التي تضعها الجماعات لنفسها (مواثيق الشرف وقواعد السلوك) أو تشريعات الدولة للجرائم الإلكترونية. وفي الأثناء يتكفل القضاء بإرساء قواعد وتقاليد تفرّق بين الروح الحرة النقدية التي تميز الصحافة وثقافة الغيبة والنميمة والتشهير والغمز واللمز التي تميز الجبناء غير القادرين على الصدع بالحق ودفع كلفته!
هل تريد التعليق؟