مقالات

الصحافة ليست سوشيال ميديا

أذكر اجتماعاتي الأولى مع المذيعين والصحافيين في قناة الجزيرة في 2014 عن التحول الرقمي في الإعلام، وضرورة الحضور على المنصات الرقمية، وتفعيل الوجود سواء على مستوى المؤسسة أم الصحافي. كان حديثي دفاعيا من باب أن “فيسبوك” ليس مؤسسة صهيونية، ولا مرتبطة بأجهزة الاستخبارات، ولا تسعى إلى سرقتنا ونهب جيوبنا. ولا أنسى الأسئلة التي وجهت للزميلة جمانة عنتر التي كانت مسؤولة الأسواق النامية في “فيسبوك”، من قبيل أن هدفها تحقيق أرباح من “الجزيرة”، ولا أنسى دهشتي عندما وصل إلي إيميل يسمّي الحساب “هاشتاغ”!
ولا أنسى الغمز واللمز بأني ” تبع فيسبوك”، ولا أهتم بالشاشة! مع أني في الخطاب الأول في الحفل السنوي لـ “الجزيرة” تحدثت بوضوح إن التحول الرقمي ليس تخليا عن قيم الإعلام، وإنما هو وجود على مساحة لم تكن موجودة، وشراكة مع جيل جديد لم يكن عندما تأسست “الجزيرة”. عندما غادرت إدارة “الجزيرة”، كان التحول قد تحقق، وأحيانا بصورة مبالغ فيها. أصبح جل الصحافيين “مقيمين” في “فيسبوك” أو “تويتر”. والاحتجاجات لا تتوقف من تأخر نزول مادة على المنصات، والمنافسة محتدمة بين الصحافيين على عدد المشاهدات وعدد المتابعين.
تأتيك مادة سخيفة كخطأ مذيع على الهواء، أو تقرير بسيط منوع عن تقاليد شعبية، تحقق مشاهدات مليونية. في المقابل، وثائقي رصين كلف مالا وجهدا كثيرين لا يحقق عشر ما تحصده المقاطع السخيفة. وإن أظهرت الدراسات الحديثة أن منصات التواصل سبب رئيسي في اكتئاب المراهقين، فلا شك لدي بأنها سبب في اكتئاب صحافيين أيضا، يضنّ عليهم المتابعون ب”لايك” و”فلو”، ويغدقونهما على من دونهم علما وعقلا وجهدا، وحتى وسامة.
الاكتئاب مبرّر، ودور المؤسسة الإعلامية هو ترويج المادة الثقيلة، وإيصالها إلى الحد الأقصى من المشاهدات، سواء بالترويج المدفوع، أو إعادة إنتاجها بشكلٍ يقرّبها من المشاهد الرقمي. وما هو أهم أن على الصحافي أن يدرك أن ما يعتقده منافسا مرهقا يثير حسده ليس صحافة، هو مادة مسلية، وإن ظهرت على الشاشة، تماما كالفرق بين جرّاح قلب بالكاد يجري عملية في اليوم ومشعوذ يستقبل مئات الحالات.
لا يمس التحوّل الرقمي من علم الصحافة، ولا من قيمها ولا من تقاليدها، ولا يحوّلها إلى “سوشيال ميديا”. لقد أضاف إليها أدوات مذهلة، وجمهورا واسعا. تماما كالتحول الرقمي، في المصارف والمستشفيات وغيرهما، عدد مستخدمي بطاقات الاعتماد مليارات، ولكن ليس كل من يحمل بطاقة صار صيرفيا أو رجل أعمال، وكثيرون ممن يستخدمونها محتالون، لكنها وسعت عمل المصارف وسهلته. إجراءات الاقتراض والسداد تتم في ثوان، ولكن بمبالغ محدودة مقيّدة بالملاءة، ولكن عند الاقتراض الجدي والشراكات الحقيقية تحتاج إلى مكاتب واجتماعات وأوراق.
عالميا وعربيا، تعزّز حضور الصحافة بسبب التحول الرقمي. وفي “نيويورك تايمز”، تصرف النسخة الرقمية على المطبوعة، وأرباح الصحيفة تضاعفت، وهذا ينطبق على الصحافة التلفزيونية. وتظهر أحدث الدراسات أن مكانة “البراند” الإعلامي تعزّزت أيضاً، وإن كانت قد تضرّرت كثيرا، نتيجة الخلط بين الناشط والصحافي. ولكن هذا الضرر لحق بمعظم المهن، وما أعطاه التحول يفوق كثيرا ما أخذه. زالت الحواجز بين الإعلام المرئي والمقروء والمسموع، صرت تقرأ الفيديو النص والنص الفيديو، وصرت تسمع المقال كأنه إذاعة.
عندما يظهر جاهل وسطحي على الـ”سناب شات” أو فيسبوك، ويتحدث بصفته صحافيا، فهذا ضار. لكن ضررا أكبر وقع، وقبل ظهور الإنترنت، من خلال صحافيين كاذبين ومرتشين وعملاء أجهزة. وأضرار الإنترنت أكبر من ذلك، ولا تهدد الصحافة وحدها. الضرر الأكبر يأتي من الصحافة، عندما تتخلى عن قيمها وقواعدها وأدواتها، كما جرّاح القلب الذي يتحول إلى مشعوذ، يأتيه المريض فيتكاسل عن شقّ صدره والدخول ساعات في غرفة العمليات، ويقول له اجلس تحت القمر، وتنفس بعمق، واعمل تمارين يوغا، فيريح نفسه، ويريح المريض ويقضي عليه.
سيبقى من لا يميز بين الشعوذة والطب، ولا بين الصحافة والإشاعة والحديث المرسل. المهم أن يميز الصحافي بين المحتوى المهني المبني على قيم وقواعد راسخة صارمة و”السوشيال ميديا” منصاتٍ لتوزيع المحتوى إلى أوسع نطاق، ومساحةً للتفاعل، ومصدرا خاما للمعرفة، يحتاج تدقيقا وتحقيقا. وتبقى مسؤولية كبرى على عاتق المنصّات نفسها في مقاومة الأخبار الكاذبة. عالميا، يشكل “فيسبوك” قرابة نصف الدخول على المواقع الإعلامية، وهذا لا يعني أن “الغارديان” و”لوموند” و”بي بي سي” صارت تعتمد الإشاعة بدلا من الخبر، لكن صحافيي تلك المؤسسات صاروا أقرب إلى جمهورهم، وطوّروا أدواتهم، ولم يتخلوا عن قيمهم وتقاليدهم. وضع العصا في دواليب التحول الرقمي في الصحافة لم يعد ممكنا، الممكن والمطلوب فهم التحول وتسريع وتيرته، وتوضيح غاياته للمنتج والمستهلك.

هل تريد التعليق؟