مقالات

الضوضاء التي تعكر صفو الرأي العام

لعل أبرز ما خرج به المؤشر العربي الذي يرصد اتجاهات الرأي العام العربي للعام الثاني، هو أن الجماهير العربية التي احتشدت في الساحات والشوارع والميادين، وتلك التي تعلقت أنظارها بها، متفائلة رغم إخفاقات كثيرة حقيقية، واعتراض رئيس على الواقع الذي أفرزته. وذلك التفاؤل هو الذي يولد الطاقة التي تحرك عجلة التاريخ إلى الأمام.
أكثر من نصف العينة التي شملت 13 بلدا عربيا، من بينها بلدان “الربيع”، تنظر بإيجابية إلى التغييرات. وثلث العينة تنظر بسلبية. وهؤلاء لا يشككون في دوافع التغيير ولا يرفضونه، ولكنهم يرون أنه أخفق ولم يحقق أهدافه. وقوة الاعتراض الرئيسة هذه تمثل حماية للربيع العربي، وسلطة نقدية تمنع تغول السلطة الجديدة.
الاستطلاع حدد نسبة  3 % هم “الضوضاء” الذين يملؤون الفضاء صخبا ويرفضون الربيع العربي ويشككون به باعتباره مؤامرة صهيونية أميركية إسلامية. وهي ذات النسبة التي تؤيد السفاح بشار الأسد، وتحتفل في يوم سقوط القدس بتحرير القصير. لكن هذه العينة ذاتها، بمن فيها حسن نصرالله، احتفلت بانتصار الثورات في تونس ومصر واليمن، وحتى ليبيا، وعادت بعد وصول قطار الربيع إلى بشار لتنضم إلى حركة “آسفين يا ريس” وتكتشف المؤامرة على المقاومة!
قبل ظهور نتائج “المؤشر العربي”، اتصل بي الشيخ عبدالباقي جمو؛ أقدم برلماني أردني، شاكرا على مقال ومستاء من نشر صحيفة لمقال يمجد بالسفاح بشار الأسد. فقلت له إن هذه الكتابة تدين الصحيفة وكاتبها، والرأي العام العربي والأردني مع الشعب السوري. قال لي: صحيح، ولكن لو طبخنا جزورا في قدر، وألقى أحدهم فأرا فيه فإنه يفسده!
لم أتفق مع الشيخ، وقلت له إن أنصار بشار لم يستطيعوا على مدى عامين حشد أكثر من 60 شخصا تأييدا له. وعندما احتشدوا تأييدا أمام السفارة الروسية كانوا أربعة أشخاص، مقابل 400 شخص مندد.
تختلف المواقف تجاه الربيع العربي من تجربة لأخرى. فالضوضاء الطائفية لم تشتعل إلا بعد الثورة السورية. وصرت تجد أدعياء يسار يبايعون الولي الفقيه الذي يحدد من يحق له الترشح في الانتخابات، ويهددون بالثبور وعواقب الأمور لأخونة الدولة وتطبيق الشريعة في مصر وتونس!
في “المؤشر العربي” صورة قريبة جداً من الواقع، تتطابق مع مسوح استطلاعية علمية أخرى سبق وأجريت على مستويات عربية وعلمية، ولكنه الأول من نوعه من حيث المساحة التي غطاها والعمق الذي سبره. فالمخاوف من الإسلاميين حقيقية لدى شريحة واسعة تصل إلى الثلث، وهي نابعة من أسئلة يمكن الإجابة عنها، تتعلق بالمواطنة والمساواة وتداول السلطة. وإن أجاب عليها الإسلاميون، يكسبون وتكسب المنطقة؛ وإن فشلوا في الإجابة ستوجد قوى أخرى تنجح في الاختبار.
يستند الإسلاميون لقاعدة شعبية متينة تصل للنصف، وتقل المخاوف بالمناسبة في مصر وتونس حيث يحكمون، وتزيد في البلدان الأخرى. وتأييدهم مشروط بالالتزام بقواعد الديمقراطية التي يراها أكثر من 70 % نظام الحكم الذي يرتضونه، والذي ترى الأكثرية أنها لا تتعارض مع الإسلام.
بقيت ملاحظة أخيرة تتعلق بتحديد العدو. فأكثر من 80 % ما تزال ترى في إسرائيل عدوا، وترفض معاهدات السلام معها. وبنسبة أقل كثيرا تبرز الولايات المتحدة وإيران باعتبارهما عدوين، وهذا مفهوم. فأميركا لأنها تدعم الاحتلال الصهيوني، واحتلت العراق ودمرته؛ وإيران بحكم أنها تدعم الاستبداد في سورية، وساهمت في تدميرها وتدمير العراق.
قصارى القول، إن الرأي العام العربي راشد وناضج، ولا تعكر الضوضاء من صفوه. ودور النخب والقوى السياسية التفاعل معه، والإجابة عن أسئلته، وتلبية تطلعاته، وعدم الاصطدام بثوابته.

هل تريد التعليق؟