ما يشهده العراق من تفسخ طائفي وأقوامي (إثني) قابل للتكرار في أكثر من بلد عربي. فقوة الروابط الموروثة القديمة تجعلها تتفوق على رابطة الدولة ومؤسسات المجتمع المدني. ولا تقوى ولا تتفوق تلك الروابط الأولى إلا بضعف وهشاشة الروابط الثانية. فالدولة الحديثة لم تفرض بقوة العسكر والأمن وإنما بنت جاذبيتها باعتبارها الراعية والضامنة للمواطن منذ ولادته إلى مماته تشاركها في ذلك مؤسسات المجتمع المدني وأحيانا تسبقها.
وما نراه في العراق يدفع إلى التفكير بشكل وقائي من خلال تجنيب الناس شرور الحرب الأهلية بين الطوائف بدلا من الطيش على شبر من ماء الديمقراطية. لنترك العراق الرازح تحت الاحتلال والمستباح من إيران ولندقق في سورية التي يحكمها البعث منذ عقود. أين شعارات البعث العابرة للحدود من واقع الطوائف التي لا تعبر إلى الدولة، فتبقى الطائفة أقوى من الدولة ومؤسساتها المدنية.
لبنان البلد الوحيد الذي اعترف رسميا بالواقع الطائفي قبل الحرب الأهلية ومن بعد. أما مصر فإن نتائج الانتخابات كرست الواقع الطائفي. وغدت المسألة القبطية موضوع بحث في المنابر الغربية. وسبق للانتخابات في المغرب والجزائر أن كشفت عن مدى عمق الإنقسام الأمازيغي العربي. وفي السودان لم تضع الحرب الأهلية اوزارها بعد والبلد برسم التمزق جنوبا وغربا عروبة وأفرقة.
الأمثلة لا تتوقف، وتتخيل أن العالم العربي ستتضاعف عدد دوله بعدد الطوائف الموجودة فيه. لكن يمكن اختصار الأمثلة بسؤال بسيط: ما هي الدولة العربية التي شكلت بديلا عن الطائفة والعشيرة والجهة؟
ثمة عامل خارجي أسهم في الانقسام وربما أوجده، والمؤكد أنه يستغله ويلعب على أوتاره. لا أحد يبرئ المحافظين الجدد ولا إسرائيل ولا إيران. من مصلحة المحافظين الجدد ضرب سورية ومن مصلحة إسرائيل مد جسور مع الأقليات من أفارقة وأكراد وموارنة ومن مصلحة إيران اختراق العالم العربي من خلال المذهب الشيعي كل ذلك صحيح. لكن تلك الأقليات لم تهبط من المريخ هي شريك في المنطقة ولا يعيبها أنها أقلية عددية. هل نقبل بظلم المسلمين في الهند أو الصين لأنهم أقلية؟ أم نقبل بالتنصت على هواتفهم في أميركا؟
الدولة الطائفة تعني “الدولة الكارثة”، ومن مصلحة شعوب المنطقة أن تبني دولا حديثة أساسها المواطنة، يشعر كل أبنائها بالكرامة ويعاملون باحترام على أساس سيادة القانون. هذه الدول هي التي تصمد أمام عاديات التآمر. هل يعقل أن يصل الأمر أن يفضل العرب السنة في العراق سجون الأميركيين على سجون وزارة الداخلية الشيعية؟ ليس مزحة أن يصف السفير الأميركي زلماي خليل زاد وزير الداخلية العراقي بأنه طائفي؟
فساد الواقع في العراق ليس بفعل الاحتلال، بل تمتد جذوره إلى الصراع الصفوي- العثماني الذي لعب على ورقة الطائفة الشيعية. وتكرر الصراع بدموية أكثر بين مشروع دولة البعث الصدامية ودولة الجمهورية الإسلامية الخمينية. وكما ضاق بعث صدام بالشيعة العرب ضاق إسلام الخميني بالسنة عربا وأكرادا. هذا لا يعني أن الغرب كان سعيدا بوجود الخميني وصدام. بل هما من ألد أعداء الغرب وإسرائيل لكنهما كرسا صراعا طائفيا يضعف المنطقة ويخدم مصالح الغرب وإسرائيل.
الطائفة حقيقة لا يمكن إلغاؤها. لكن الطائفية مرض يجب العلاج منه، فبقاء المرض يضعف الجسد ويغري بمهاجمته. وهو ما حصل في العراق وما سيحصل في غيره.
هل تريد التعليق؟