لا يمكن التعامل مع ظاهرة العنف الطائفي في مصر عبر المواعظ الفارغة في الوطنية والسلم الاجتماعي والعيش المشترك. فالعنف مؤشر واضح على فشل الدولة في إقناع فئات من مواطنيها بأنّها دولة المواطنين. فالإسلاميون ساخطون عليها ويعتبرونها نموذجا لفشل العلمانية، والأقباط ساخطون عليها باعتبارها دولة المسلمين. ولا أحد يعلم حتى الآن هي دولة من؟
ثمة أصابع خارجية وعبث دولي بالورقة الطائفية، صحيح. وفي الدولة التي تعاني من فشل في جوانب متعددة تنهار مناعات الجسم وتسمح للاعبين الدوليين والإقليميين بالعبث. وحتى لا تُلقى اللائمة على التيارات الإسلامية، دعنا نتذكر الآتي: الأحداث الطائفية بدأت في مصر قبل فوز الإسلاميين بالانتخابات الأخيرة، والإخوان منذ أحداث الزاوية الحمراء في عهد السادات لعبوا دورا حاسما في احتواء الفتنة وتهدئة الخواطر. خارج مصر وقعت الحرب الأهلية في لبنان ولم يكن فيها حزب إسلامي. وفي العراق ازدهرت الطائفية في ظل قمع البعث واحتلال الأميركيين.
وإن كانت التيارات الإسلامية لا تتحمل كامل اللوم فإن جزءا منه يقع عليها. فهي لم تستطع إقناع المسيحيين وغير المسلمين بعامة، أن الإسلام هو الهوية الجامعة للأمة، وليس طائفة مغلقة على امتيازاتها، وأن الأحزاب الإسلامية في العالم العربي لا تختلف عن الأحزاب المسيحية في العالم الغربي. على مستوى النخب حصلت اختراقات مثل مكرم عبيد في مصر الذي كان يقول أنا مسيحي ديانة ومسلم مواطنة. ومن بعده قال فارس الخوري الذي انتخب رئيسا لمجلس النواب السوري: أنا مسيحي ديانة مسلم ثقافة.
في المحصلة، في ظل هذه الاختلافات استفزت الأقليات وشعرت أنها تدفع الثمن الأغلى نتيجة الفشل. فالأكثريات تظل لها عصبيتها التي تحميها، أما الأقليات فقد لا تجد غير الخارج ملاذا لها. التمييز ضد الأقباط في مصر هو ثمرة الدولة المصرية العلمانية الحديثة وليس ثمرة حكم الإخوان المسلمين. وإن كان للأقباط مطالب مشروعة فهذا لا يعفيهم من اللوم.
فالمسرحية المسيئة للنبي الكريم عليه السلام التي نظمتها إحدى الكنائس في الإسكندرية لقيت استنكارا عاما في مصر، لكن البابا لم يعتذر مع أن من قام بها واحد من أتباعه. وبدلا من الاعتذار هدد بالاعتكاف. وحتى النخب العلمانية لم تسلم من المواقف المتشددة. شخصية مثل ميلاد حنا، قيادي ماركسي تاريخي، نسي الطبقة العاملة وكل ما تتعرض له من جوائح مسيحيين ومسلمين، وتذكر الطائفة. إلى درجة أنه هدد بالهجرة من مصر عقب فوز الإخوان المسلمين! من لا يعترف بالآخر؟
المعركة ليست بين الأقباط والمسلمين، المعركة الحقيقية بين المجتمع والدولة. فالمجتمع المتنوع الثري يحتاج إلى دولة تستوعب تنوعه وثراءه لا تضيق به وتضيق عليه. الانسداد السياسي والاقتصادي هو من ينمي النوازع الطائفية فتحل الطائفة مكان الدولة، وتقوم بوظائفها في الرعاية والحماية. وبدلا منها تخوض المعارك. ليست معارك مع الخارج، وإنما مع الداخل الجميع فيها مهزوم.
الفتنة الطائفية في مصر جرس إنذار للدولة المصرية. فثمة تهديد للمجتمع بأساساته، ويحتاج إلى إعادة بناء من جديد. ليس أولوية اليوم قضية توريث الحكم، ولا وصول الأكثرية الإسلامية في الشارع إلى الحكم، الأولوية هي الحفاظ على ما تبقى من دولة. فالحرب الأهلية في لبنان وفي العراق وغيرهما أظهرت مدى حاجة الناس للدولة.
هل تريد التعليق؟