انتعشت قوة القبيلة في العالم العربي، في ظل هشاشة الدولة وانهيار المؤسسات المدنية الجامعة. أدرك المستبدّون أنهم بحاجةٍ إلى قوة بديلة للأحزاب والنقابات، وأحيانا للدولة، تقوم بوظائفها في الرعاية الاجتماعية، وصولا إلى الحماية العسكرية. الصورة الأكثر فجاجةً كانت في السودان، عندما جند نظام عمر البشير القبائل العربية البدوية ضد القبائل الأفريقية الريفية في إقليم دارفور. قوة الجنجويد قامت بواجب الدولة بحماية الدولة من تمرّد عسكري، ولكنها لم تلتزم بدستورها وقوانينها، فأعملت السلب والنهب والاغتصاب والإحراق، في سلوك همجي أوصل حاكم البلاد إلى محكمة الجنايات الدولية.
في الأزمة الخليجية، حاولت دول الحصار العبث بورقة القبيلة، مستفيدةً من وجود امتدادٍ قبليٍّ، وتداخل ديمغرافي، بين دول الخليج. وحشدت قبائل في لقاءات عامة هدّدت وتوعدت، ويبدو أنها كانت جزءا من عمل عسكري ضد قطر، وظهرت فيديوهات توحي بذلك، مثل مسلحٍ يقول لشيخ قبلي: أعطني أمرا ولا أتوقف إلا في الدوحة. .. وسبق في المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 1995 أن جُنّد أبناء قبائل لهذا الغرض.
المفارقة أن الدول الاستعمارية كانت أذكى من المستبدّين في فهم منطق الدولة. في الأردن، مثالا لا حصراً، كان من أول التشريعات التي أصدرتها إمارة شرق الأردن في العشرينيات “قانون الإشراف على البدو”. وهو قانون عسكري يخوّل قائد الجيش (كان بريطانيا)، أو من ينيبُه، مصادرة الأموال والممتلكات، وتعيين الشيوخ وعزلهم.. وكان الهدف منه منع الغزو، وتم تحديد القبائل البدوية الغازية، ولا تزال هي أساس تعريف البدو في قوانين الانتخابات الأردنية. وإضافةً إلى القانون، تشكلت قوة البادية وحرس الحدود، وجنّد فيها أبناء القبائل، وبذلك حضرت الدولة بصفتها القوة التي تحتكر القوة المنظمة. مع ذلك، لم ينته الغزو في الأردن إلا في العام 1935. لم يكن القانون الأردني فريدا، كان ثمرة خبرة استعمارية امتدت في أرجاء العالم.
توجد مصلحة لدى المستبد في إضعاف الدولة، تحللا من القيود التي يفرضها القانون. ولذا شهدنا إحياءً للقبلية السياسية في معظم العالم العربي، وأخرجت القبيلة من فضائها الاجتماعي إطارا للتواصل والتراحم إلى فضاءٍ سياسيٍّ قائم على الاستقطاب والتناحر. على القوى الحديثة أن تخوض معركتها مع الاستبداد بذكاء، فالتصدّي للاستخدام السياسي للقبيلة، ليس استهدافا للمجتمع وأواصره وعاداته وتقاليده، بقدر ما هو حماية لها، فالدولة فوق القبيلة، وإلا تحولت كل قبيلة دولةً، ومن المهم أن تشارك القبيلة الدولة في بعض مسؤولياتها، مثل التحكيم وفض المنازعات، والتكافل الاجتماعي في الأحزان والأفراح وغير ذلك. لقد وصلنا في دولٍ عربيةٍ كثيرة إلى مرحلة الانتخابات الفرعية داخل القبيلة قبل الانتخابات العامة! وبات ذلك شائعا ومقبولا، لكنه في الواقع لم يحقق إلا مزيدا من تفكيك القبيلة الواحدة، ونقل المعارك السياسية إلى داخل الأسرة.
تجري المبالغة في تقدير قوة القبيلة، لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، وكأننا في مرحلة اقتصاد الغزو، ولعل اليمن المثال الأكثر بؤسا، فالقبيلة لم تصمد أمام استبداد علي عبدالله صالح، ولم تمنع غزو الحوثي، وشهدنا كيف دمروا بيت الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر الذي كان شيخ “حاشد”، أكبر قبائل اليمن، وما أقاموا وزنا لقبيلةٍ ولا لحزب. كان من المفروض أن يحمي اليمن جيش الدولة، لا قبيلة حاشد ولا غيرها. في النهاية، نجح صالح في تحويل اليمن إلى مليشيات قبلية، ونمَى النزعات الطائفية والجهوية. واليوم يستمر التحالف السعودي الإماراتي بالنهج نفسه، وبشكل أسوأ. يشتري ولاءات قبائل، ويكون مليشيات قبلية ومناطقية على حساب الجيش الوطني.
لا مخرج للعالم العربي من المأزق التاريخي الذي يعيش فيه إلا بالعودة إلى منطق الدولة، قوة فوق الجميع على أساس الدستور والقانون والعدالة والمساواة. استخدام القبيلة سياسيا هو عودة إلى مرحلة ما قبل الإسلام، وليس ما قبل الاستعمار. عندما قامت الثورة العربية الكبرى، وحاول بعض رجال العشائر نهب دمشق، قتل منهم، كما يروي صبحي العمري، في مذكراته، أكثر من أربعين، مع أنهم كانوا من أعمدة جيش الثورة. كان العمري ضابطا عثمانيا يفهم منطق الدولة، وقتل “الثوار” حفاظا على الدولة. بعد قرنٍ، لا يبدو أن منطق العمري هزم لصالح النهب باسم القبيلة أو المذهب وما دون ذلك.
هل تريد التعليق؟