مقالات

المغامرة الأخيرة لولي العهد الكسيح

جسّد الملك عبدالله بن عبد العزيز نموذج الحذر السياسي الذي جمّد قدرات السعودية، وحوّلها إلى دولةٍ منكفئةٍ على ذاتها، لا دور إقليميا، ولا عالميا، لها. ويلقي كثيرون باللائمة عليه، بسبب موقفه المهادن للقوى الطامعة في المنطقة، ولم يتخذ موقفا أمام التمدّد الإيراني في العراق والمنطقة، ولا أمام الوقاحة الإسرائيلية. وعندما تحرّك كان بالاتجاه الخاطئ، إذ كان باتجاه وأد الربيع العربي، وتشجيع الثورة المضادة، ودعم الانقلاب الدموي في مصر، وإنقاذ علي عبدالله صالح وإعادة تمكينه، واستقبال زين العابدين بن علي ابتداء.
غير أن المدافعين عنه يرون أنه اتجه إلى الداخل السعودي الذي أثخنته جراح “11 سبتمبر”، وانشغل في مواجهة مصيرية مع “القاعدة”، وما كان يستطيع أن يخوض مواجهةً مع إيران وإسرائيل وظهره مكشوف أميركياً. ولولا هذ السياسة الحذرة، لما تردّد المحافظون الجدد في تمرير أجندتهم على السعودية، كما مرّروها على العراق. واتبع بالمجمل سياسةً أغدقت على المواطن تعليما ورفاها. وفي عهده أفرج عن معتقلي الرأي، وشهدت البلاد تسامحا وانفراجا غير مسبوقيْن.
بوفاته في يناير/ كانون الثاني 2015، تفاءل كثر بأن السعودية في عهد الملك سلمان ستخرج من سباتها، وتقود سياسة أكثر جرأةً وأقل حذرا. توَجت “عاصفة الحزم” تلك السياسة. وحظيت بتأييد كبير في اليمن، والعالمين العربي والإسلامي. كانت، في نظر المؤيدين، عملية جراحية ضرورية، لردع قوة انقلابية على الشرعية والديمقراطية تعتمد على الدعم الإيراني خارجيا، والعصبية الطائفية، وبقايا استبداد علي عبدالله صالح، داخليا. كانت أشبه بالتدخل العسكري ضد نظام القذافي في ليبيا، والقوى التي وقفت معها هي قوى الربيع العربي التي كانت تأمل باستعادة اليمن من الانقلابيين، وعودته إلى شباب الميادين. سرعان ما تبين أن ذلك ليس أكثر من وهم. وأن العملية العسكرية التي قدّر لها أسبوعين ليست أكثر من حربٍ خفيةٍ على الشعب اليمني بكل قواه الديمقراطية، وأنها ليست غير ستارٍ لإعادة صالح، وتقسيم اليمن بين الإمارات الطامعة بموانئه والسعودية التي تريد تحييد الخطر اليمني، وليس الإيراني.
سطع نجم محمد بن سلمان وقتها. ليس مجرّد فتى بلا صلاحياتٍ ينتظر دوره في العرش، بل وزير دفاعٍ يتجاوز موقعه باندفاع وبلا حدود. استكمل سيطرته على السلطة، وأطاح ولي العهد، وحوّل والده إلى واجهة، سياسته كلها عاطفة بلا وجهة، غبار لا ينجلي. لم تهدأ “عاصفة الحزم”، وتحول الأسبوعان إلى أعوام مديدة، افتعل في غضونها الأزمة مع قطر، وكاد أن يخوض مغامرة عسكرية، لولا أن أحبطه الصمود القطري والتكاتف الإقليمي والدولي. وعاند كل المحاولات الإقليمية والدولية لرفع الحصار، وواصل خوض مغامراته باختطاف رئيس وزراء لبنان، واعتقال الأمراء ورجال الأعمال ومصادرة أموالهم. ولم يبقٍ صوتا معارضا، عندما زج المعارضين والناقدين، وكل صاحب رأي، في السجون.
لم تكبحه خيباته، زيّنها مستشارون من شاكلة سعود القحطاني وتركي آل الشيخ أهازيج فخار، فواصل اندفاعه باقتدار نحو الهاوية، فكانت أخيرا المغامرة التي تقترب مفاعيلها من “11 سبتمبر”. تحوّلت جريمة الاغتيال المروع للصحافي جمال خاشقجي إلى قضية أميركية، وتحوّلت السعودية من رصيد إلى عبء . ولم يجد ولي العهد المغامر من يقف معه غير ترامب الذي يقف في جهة والدولة والمجتمع الأميركي في جهة مقابلة.
بعيدا عن أوهام من يعتقدون أن جريمة اغتيال جمال خاشقجي أطاحت محمد بن سلمان، وأوهام من يعتقدون أن ترامب أعاد تأهيله، فالواضح أننا خسرنا السعودية، ولم يعد لها وزن عالمي، وحجمها صار محدّدا بالمساحة التي حدّدها “المنقذ الأعظم” في بيانه “تنوي الولايات المتحدة البقاء شريكا ثابتا للمملكة العربية السعودية لضمان مصالح بلدنا وإسرائيل”.
بين سائق كالملك عبدالله، يسير ببطء يحول دون وصولك في الموعد، وسائق متهوّر كمحمد بن سلمان، أدّى تهوّره إلى حادث مروّع دمر السيارة، وخرج كسيحا، تواصل السعودية طريقها نحو المستقبل.

هل تريد التعليق؟