تنتشر في كتب التراث العربي أساطير عن أنهار دجلة والفرات والنيل، منها أنها تنبع من الجنة. وهذا يكشف أهمية تلك الأنهار التي نشأت حولها كبرى حضارات العالم القديم، وعجز الإنسان القديم عن تفسير تلك المنحة الربانية. في تاريخنا الحديث، تأكد أن تلك الأنهار لا تنبع من الجنة، وبدا أنها تنبع من جهنم، فدولتا المنبع، إثيوبيا وتركيا، لا تكفّان عن سرقة مياه الأنهر العربية وتعطيش الشعوب والتحكّم بها من خلال شربة الماء.
بعيدا عن الاستقطاب السياسي، وتفاصيل المفاوضات القائمة بين إثيوبيا ودولتي المجرى والمصب، السودان ومصر، يجدر بالعالم العربي أن يقدّم مقاربةً مختلفةً مع دول الجوار، تقوم على حسن الجوار والمصالح المشتركة. وإن كان اللغم المصري الإثيوبي انفجر واستدعى تدخل ترامب، فإن الألغام بين العراق وسورية من جهة وتركيا من جهة أخرى مرشّحة للانفجار، ولا يمنعها إلا ضعف الدولتين وانشغالهما بالحروب الداخلية.
لنتواضع ونعترف بأن تلك الأنهار ليست مسجلةً باسم العالم العربي، وأن القانون الدولي يمنح دول المنبع حقوقا لا تتنازل عنها لدول المجرى والمصب، وأن أي خلافٍ من الممكن أن يحلّ بالتحكيم الدولي، أو بالتفاهم السياسي، بعيدا عن العنتريات وصناعة الأعداء، وأن العقد الأخير بقدر ما شهد تطورا سياسيا واقتصاديا في تركيا وإثيوبيا شهد انهيارا في دول المجرى العربية؛ السودان ومصر وسورية والعراق.
في الدول العربية التي تجري فيها الأنهار العظيمة يوجد انهيار في البنية التحتية والزراعة. تلك الدول تواجه مشكلات تصدير بسبب تلوث المياه، وتضيع معظمها هدرا وتسرّبا بسبب انهيار البنية التحتية في شبكات المياه الزراعية والشرب والصرف الصحي. تستطيع مصر بدلا من المشاريع الكبرى الدعائية، مثل تفريعة قناة السويس، تأهيل وبناء شبكات المياه. ومن خلال وقف التسرّب والهدر والتلوث، تستطيع أن تغطي العجز الذي يسببه نقص التدفق والجفاف.
لقد اعتمدت القيادة المصرية على موقفها المتواطئ مع “صفقة القرن” لتأمين ضغط أميركي على إثيوبيا، وهذا ما حصل. لكن القيادة الإثيوبية لم ترضخ، كما كشف رئيس جنوب أفريقيا الذي كان يفضل أن تحل الأزمة في السياق الأفريقي. تستند القيادة الإثيوبية إلى رأي عام مساند، وتمكّنت من تحقيق إصلاحات سياسية أراحت البلد، ووضعتها في مكان مريح في سياسته الخارجية، بخلاف القيادة المصرية المستنزفة في مواجهة داخلية مع المعارضة، وخارجيا في ليبيا وغيرها.
بالنتيجة لا تستطيع مصر إرغام إثيوبيا على حل. تستطيع إقناعها بالتفاهم، بناء على مصالح مشتركة. وهذا ينطبق على تركيا، فالعراق في غنىً عن خوض مواجهة عبثية معها. بإمكانه أن يستفيد من القدرات التركية في تطوير الزراعة وشبكات المياه زراعةً وشربا، ومعالجة النقص والتسرب والتلوث. والأتراك لا يريدون، في النهاية، للعراق أن يموت عطشا. وهذا ينطبق على سورية التي تعاني من تدمير أوسع للبنية التحتية.
المؤسف أن الحالة الوحيدة التي فيها حرب مياه حقيقية مع الاحتلال الإسرائيلي يتم حل المشكلات معه بالتفاهم والاتفاقات والمشاريع المشتركة. مع أنه استولى على حقوق الفلسطينيين في المياه، وأجل التعامل معها إلى الحل النهائي الذي لا يأتي. في موازاة ذلك، لا ينقطع الحديث عن مشروع قناة البحرين، الأحمر والبحر الميت، وهو مشروع أردني فلسطيني إسرائيلي مدعوم أميركيا ودوليا، لإنقاذ البحر الميت الذي ينقص كل عام بسبب سرقة إسرائيل 600 مليون متر مكعب من مياه نهر الأردن، جهارا نهارا، منذ أكثر من نصف قرن.
جامعة الدول العربية في غيبوبة، ولا تصحو إلا لإدانة التدخل التركي في ليبيا! مع أن النهر الصناعي العظيم لا ينبع من عندها، هل يمكن أن تدعو إلى مؤتمر للمياه، تدعو فيه دولتي المنبع إلى لتعاون والتفاهم والشراكة؟ ونستثمر المال العربي في مشاريع تعود بالخير على دول المنبع والمجرى. نصف العالم العربي مهدّد بالعطش والجوع، ألا يستحق ذلك تحرّكا بنّاء بعيدا عن العنتريات الزائفة، وقبل أن تتدفق من تلك المياه نيران جهنم.
هل تريد التعليق؟