مقالات

اليساري الحقيقي.. الطاهر وطّار

لا يحظى رحيل مبدع مثل الطاهر وطار في بلده الجزائر بحفاوة، والعالم العربي في شغل عن المبدعين الحقيقيين. والعزاء أن قيمة هذا المثقف لا تقررها السلطة ولا الجماهير بل، هي كامنة في أعماله الروائية الخالدة التي ترجمت إلى أكثر من عشر لغات، ورحيله لا يزيد تلك الأعمال إلا ألقا، وغيابه عن دنيانا جسدا يقابله حضور في روحه وفكره لا ينقطع.

جسد أبو الرواية الجزائرية الدور الحقيقي للمثقف؛ ففكره اليساري الماركسي لم يدفعه إلى الانحياز إلى السلطة في مواجهة الإسلاميين. انحاز إلى خيار الشعب الجزائري وأخذ موقفا نقديا من”اليسار”. وقد كتب روايته الأخيرة “قصيدٌ في التذلل” على حد قوله لصحيفة “الرياض” بإصبع واحدة، بعد أن أنهك العلاج الكيماوي أصابعه، وتناول فيها “مسار اليسار في الجزائر وثنائية الثقافي والسياسي، وكيف يسعى الثاني إلى تدجين الأول”. ولا يبخل بالهجاء على الشعراء والمثقفين الذين استهوتهم إغراءات السلطة.

ويصف وطّار نفسه بالعروبي، وهو من أشد المدافعين عن اللغة العربية والمؤمنين بوجود “قطب فرانكوفيلي” (يتحدث الفرنسية ويدين بالولاء لفرنسا) أدام سيطرة فرنسا على الجزائر، حسب قوله حتى بعد استقلالها. عارض وطّار انقلاب هواري بومدين على أحمد بن بلة في 1965، وعارض بعد 35 عاما تدخلا آخر للجيش نتج عنه حظر الجبهة الإسلامية للإنقاذ بعد انتخابات 1990، التي رجح مراقبون أنها كانت ستضع الإسلاميين في السلطة.

وفي هذه الفترة من 1991 إلى 1992 -وهو يتقلد منصب المدير العام للإذاعة المملوكة للدولة- عارض وطّار ما تبع إلغاء الانتخابات من اعتقالات طالت ألوفا سجنوا في صحراء الجزائر من دون محاكمة، وأنشأ إذاعة للقرآن الكريم. وعندما كان مصطلح “الإرهاب” يجري على شفتَي كل صحافي جزائري تقريبا، كان وطّار يرفض هذا المصطلح، ويفضل الحديث عن العنف والعنف المضاد.

تكشف يساريته الحقيقية عورات كثير من اليسار العربي؛ فهو لم يتحول إلى مثقف واش في خدمة الأجهزة لأن السلطة أرحم من الإسلاميين، ولم يرتكس إلى هويات فرعية، بل ظل يتحرك بأفق الأمة ويصف نفسه بالعروبي. كان بإمكانه أن ينحاز إلى أصوله البربرية ويتحول إلى زعيم شوفيني، لكنه اختار أن يختم حياته في “الجمعية الجاحظية” عنوانا ثقافيا وفكريا. يذكرني الصمود والقبض على جمر الأمة بنكوص شيوعيين عراقيين إلى هوياتهم الكردية والشيعية، تماما كما شهدنا كيف تحولت رموز في اليسار الفلسطيني والأردني إلى رموز شوفينية تتبرأ من أمتها وتتلطى بزواريب القطرية.

في حوار مع ” العربية” قال همه الأساسي هو “الوصول إلى الحد الأقصى الذي يمكن أن تبلغه البرجوازية في التضحية بصفتها قائدة التغييرات الكبرى في العالم”. ويقول إنه “هو في حد ذاته التراث. وبقدر ما يحضره بابلو نيرودا يحضره المتنبي أو الشنفرى”. كما يقول: “أنا مشرقي لي طقوسي في كل مجالات الحياة، وأن معتقدات المؤمنين ينبغي أن تحترم”، وعندما سئل بماذا تحب أن يذكرك الناس بعدما ترحل؟ قال “أريد أن يذكروني بأني كنت صادقا كالشهداء”.

وقد رحل كما الشهداء، “الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي”.

هل تريد التعليق؟