كنت معلقا بين السماء والأرض في طريقي إلى تونس في غضون الساعات الحاسمة التي سبقت سقوط الديكتاتور حسني مبارك. كنت أتوقع رسائل سارة عبر البلاك بيري، سواء في الفيسبوك أم توتير أم المواقع الإخبارية. صدمت وشعرت بالخيبة، فالمسافة التي تفصل قارتين لم تكن كافية لإعلان سقوطه بعد صلاة الجمعة. كنت أشعر أنه يحفر قبره عميقا، ويطيل الرواية الملحمية، غير أن ذلك لم يمنع من تسرب الملل ولا أقول الإحباط. في تونس بدا مشهد السقوط مهيبا. التعبير العفوي بإطلاق زوامير السيارات ومظاهر البهجة كانت تقول لقد فعلتها تونس.
في حقبة الثورة نكون كمن يحلق في السماء، بعد نجاح الثورة تكون الطائرة قد حطت على الأرض. إنها حفلة العرس التي توثق وتعلق صورها ويحتفى بها. لكنها على بهجتها تنتهي سريعا وتظل ذكرى جميلة حافلة بالوعود. العروس تخلع ثوب الزفاف الأبيض وترتدي ثياب المطبخ (تماما كما يرتديها العريس!)، ومسؤولية إدامة الحياة في البيت من ماء وكهرباء ونظافة وأولاد وتعليم. لن يكون بيتا ملائكيا، سيكون الكثير من الصراخ والانفعال والمشاكل.
لم يخب أملي في تونس بعد انتهاء حفلة العرس. الكل فخور بما أنجز، من الشرطي في المطار إلى السائق وصولا إلى النخب. وفي المقابل ثمة قلق وهواجس. فالثورة لم تبن البديل بعد، سواء كان اقتصاديا أم سياسيا. فالقضاء على الفاسدين لا يعني انهمار الاستثمارات، والتخلص من حزب التجمع الشمولي لا يعني ازدهار الأحزاب التعددية. تحتاج تونس إلى وقت وصبر وجهد حتى تقدم بديلها.
كما المولود المنتظر لا تعرف ملامحه، لكن بالقطع فإن حال تونس اليوم، كما مصر، أفضل جذريا من السابق. وكل الإشكالات الناجمة عن التغيير ما هي إلا آلام الجراحة التي يعاني منها من استؤصل منه ورم سرطاني لو بقي لقضى عليه. المشكلة اليومية للمواطن التونسي –كما المصري- الأمن. فأجهزة الأمن التي كانت عنوانا للتسلط وانتهاك حقوق الإنسان عادت لدورها الطبيعي، لكن بعد أن فقدت هيبتها. فضلا عن وجود مجموعات إرهاب حقيقية في جهاز الأمن. وغياب الهيبة المحمود بقدر ما أفاد الناس والنخب استغله المجرمون، سواء من أطلق سراحه أم كان طليقا.
لم تعد تنطلي على الناس المقايضة السخيفة إما الأمن وإما الديمقراطية. فالطغيان قد يشعرك بأمن مؤقت وسط شعور مقيم بالخوف والرعب. والأمن في النهاية ليس جهازا بل حياة في البيت والعمل والشارع. ولا يتحقق بالسطوة والإرهاب، يتحقق بالعدل والحرية وسيادة القانون.. والثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع.
لن تقتصر الجاذبية التونسية على الثورة، ستتقدم تونس العالم العربي بقوة الجاذبية في بناء الدولة وإدارتها. وهي ستكون بكل المقاييس أفضل من النظام الهارب إلى غير رجعة. لقد خسرت الشعوب العربية، خلال عقود، بفعل الأنظمة الفاسدة المستبدة كثيرا من مواردها وإمكاناتها وطاقتها. ومن الظلم أن نطالب الشعوب المستباحة أن تصلح في أيام أو شهور ما أفسده دهر الطغيان.
هل تريد التعليق؟