مقالات

انحياز الكاتب وانقسام المجتمع

أكثر تعليقات القراء استفزازا تلك التي تقول لك “أنت منحاز”، وكأنها تطلب من الكاتب أن يكون بلا رأي، وهو كاتب رأي. فثمة خلط فاضح بين الخبر والرأي. فعندما تنقل خبرا تكون محايدا، حتى لو كنت في داخلك منحازا لطرف من الأطراف، وهذا غير ملزم عندما تكتب رأيا إذ تحشد له كل الأسانيد والأدلة والحجة حتى تقنع الناس بصحته. المحظور هنا أن تكذب بذكر وقائع لم تحصل أو تزور وقائع حصلت أما أن تقول رأيك فهذا جوهر الكتابة.

في الصراع العربي- الإسرائيلي يمكن لكاتب أن يؤيد المقاومة ولآخر أن يؤيد التسوية، ولثالث أن يجمع بينهما. لكن الكاتب لا يدير ندوة ويعطي لكل طرف وقتا متساويا في الحديث. والكاتب في النهاية ليس صانع قرار يحدد ساعة البدء في المعركة أو ساعة الجنوح للتسوية، هو مؤثر في صانع القرار وفي الرأي العام، ومدى تأثيره لا يعتمد بالضرورة على صحة موقفه بل أحيانا يكون الشكل والأسلوب هو العنصر الحاسم. فكم من محام فاشل خسر قضايا عادلة وكم من محام ناجح كسب قضايا غير عادلة.

أتى الضعف في الإعلام العربي من جهتي الرأي والخبر، فكاتب الرأي ظل لعقود مجرد بوق للسلطة يردد ما تقول ويروج لها بشكل دعائي غبي. وغاب الكاتب المعارض في السجن أو القبر أو المنفى. والخبر كذلك هو ما تريد السلطة أن تعرفه الناس فلا حق لهم في الخبر المتنوع. عقود من الإعلام الشمولي الأحادي لا يمكن إزالة آثارها بسهولة. فالتطور الذي حصل في الإعلام العربي جعل الناس تتوقع أن الكاتب خاضع لرغباتها وميولها، بما أنه ليس خاضعا للسلطة.

من يقرأ الصحافة الإسرائيلية في دولة تخوض صراعا تاريخيا مع العرب يجد كتابا يقفون ضد حكومتهم في حربها على لبنان أو حربها على حماس. هؤلاء الكتاب يختلفون مع دولتهم في لحظة الحرب ولا يتهمهم أحد بأنهم يخونون وطنهم. لم يدفع لهم حزب الله أو حماس أموالا  ليغيروا قناعاتهم لكنهم يرون مصلحة اليهود في تجنب المواجهات العسكرية.

أما الانقسام في الصحافة الأميركية فهو على أشده هذه الأيام بين دعاة الانسحاب من العراق ودعاة البقاء فيه. لا يشكك بدوافع من يرفضون الحرب ولا يحملون دماء الجنود القتلى في العراق. هذا الجدل الذي تشهده أميركا اليوم لم نشهده في عالمنا العربي عندما دخل الجيش المصري إلى اليمن أو دخل الجيش السوري إلى لبنان أو دخل الجيش العراقي إلى الكويت. كل الصحف في مصر وسورية والعراق كانت مجندة خلف القيادة. تجد الانقسام في كل مجتمع متطور هو الشيء الطبيعي والمألوف. في المجتمعات المتخلفة  تجد الإجماعات الكاذبة على كل القضايا.

عندنا في الأردن انقسام مثل أي مجتمع، سواء في السياسة أم الثقافة أم الاقتصاد. وعلى الكتاب أن يعبروا بشجاعة عن انحيازهم لما يعتقدونه صوابا. فكاتب يجد أن الإسلاميين خطر داهم على المجتمع عليه أن يقول ذلك صراحة ويقدم أدلته، وآخر يرى فيهم تيارا نظيفا مؤهلا لتداول السلطة، وفي الثقافة والاقتصاد الانقسام أشد ثمة من يرى في ثقافة الغرب أنموذجا يجب تعميمه ولا يرى في الثقافة الإسلامية غير عبء يجب التخلص منه يقابله من يرون العكس، وفي الاقتصاد ثمة من يرى في “الدافوسية” حلا لكل المشاكل الاقتصادية مقابل من يراها أساس المشاكل الاقتصادية.

على الكتاب أن يعكسوا انقسام مجتمعاتهم بدقة، فلا توجد شياطين في مواجهة ملائكة، توجد وجهات نظر تحمل صحة نسبية، والرأي العام يميل مع الأكثر إقناعا له، والسلطة عليها أن توازن بين ما تراه صوابا وما تراه منسجما مع الرأي العام. المهم أن يظل الكاتب حرا في طرح رأيه.

هل تريد التعليق؟