مقالات

باب الحارة ونمر بن عدوان

في الهوة بين تاريخ لا يعود ومستقبل لا يأتي تراوح الأمة مكانها لا تتأخر ولا تتقدم. فالمدينة العثمانية في “باب الحارة” ومضارب البدو في “نمر بن عدوان” نمطا حياة انقرضا من عالمنا العربي الذي تبقى فيه شيء من قرى الفلاحين يوشك على الانقراض.لم يعد للناس العاديين حاراتهم التي يعيشون فيها متشابهين متقاربين، وغدت الحارة ذات الباب ملمحا من ملامح الغنى الفاحش الذي يبني سورا عاليا دونه ودون الجوار البائس الفقير، أما المضارب فهي للإيجار والاستئجار في مناسبات الفرح والترح. <br/> <br/>هو الحنين إلى الآفل والراحل فينا. وقد أبدع “باب الحارة” في مخاطبة تلك الحساسية. في الناس والأماكن كان المشاهدون يفتشون عن ملامحهم، يصح هذا في الأجيال التي عاصرت الحارات واشباه الحارات، لكن ما بال الجيل الطالع في الشقق والقصور المعزولة؟ <br/> <br/>كنت ذهبت مع أطفالي إلى دمشق القديمة قبل “باب الحارة” لم تثر دهشتهم وفضولهم ولم يتعلقوا بها. اختلفت حالهم بعد المسلسل وغدوا مهتمين بزيارة تلك الأماكن المسحورة. <br/> <br/>الصديق د. محمد المصري، الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية، استطلع بعد أن شاهد المفعول السحري للمسلسل أطفال العائلة إن كانوا يرغبون في العودة إلى زمان الحارة أم البقاء في زمانهم فأجمعوا على العودة إلى ذاك الزمان. فذكرهم بمكتسبات زمانهم وإن كانوا مستعدين للتنازل عنها فأصروا على العودة. فسّر الأطفال حنينهم لزمان لم يعايشوه بأنهم بحاجة إلى الحميمية في العلاقات والتواصل بين الناس وهو ما يفتقدونه اليوم، بالإضافة إلى قيم الشهامة والشجاعة وغيرها. كررت “الاستطلاع” مع أطفالي فتطابقت إجاباتهم، وحين قلت لهم لن يكون ثمة سيارت إجابت آية ذات السنين التسع “أحسن ما نندعس”! <br/> <br/> نجح “باب الحارة” في تقريب صورة الزمان القديم. ولم تكن الحارة مكونة من رجال أفاضل، كان فيهم الشجاع والجبان والفتّان ونساء الحارة كذلك، وما فيه من مبالغات مشروعة لغايات التشويق والإبهار. وقد زيَن للجيل الطالع قيم التضحية والفداء والكرم والتسامح والعفو في وقت تضج الناس من قيم ثقافة الاستهلاك المعاكسة. <br/> <br/>سياسيا؛ كانت رسالة المسلسل في اتجاه مناقض للسياسات الرسمية الممالئة للأجنبي. فالصراع هو مع الفرنسي والإنجليزي ومن ورائهم الصهيوني وليس مع الحارات المجاورة. غابت في المسلسل تماما فكرة الدولة وسيادة القانون، فالدولة ممثلة في مخفر أبو جواد مكان للعمالة للأجنبي وفيها كل الشرور من رشوة وفساد وتعذيب، والحق ليس في القانون وإنما ما اختمر في ذهن “العقيد” وأخذه بيده أو بمعونة قبضايات الحارة. حتى مشهد قتل العميل “صطيف” غابت عنه المحاكمة العادلة. ورصاصات المسدس التي تنطق بالحق لم تنافسها غير خيرزانة أبو العز الذي يقتص بها من مناكفي والده. ذلك كله قد يسجل للمسلسل فالمراد تقديم تلك الحقبة بما لها وعليها، وفي حروب التحرير ارتكب الثوار من الجزائر إلى كوبا فظاعات يهون دونها مشهد قتل “صطيف”. <br/> <br/> يظل زمان الحارة متقدما على زمان المضارب، فالحارة تكسب من تجارتها وحرفها وخدماتها، أما المضارب فرزقها تحت ظل رمحها. وكسبها هو ما غنمته مما جاورها من قبائل تغزوها أو من قرى وبلدات تدفع لها الخوات. غير أن شخصية نمر بن عدوان مثلت أفضل ما في ذاك الزمان، فهو الذي يتغرب طلبا للعلم في بيئة جهل، وهو المتسامح في بيئة قاسية، وبالمجمل نجح المسلسل، وإن بدرجة وأقل من باب الحارة، في رسم صورة زاهية لشخصية من التراث الأردني، وجعل من قصيدته في رثاء زوجه لحنا يتداوله الناس على هواتفهم، وفي زمن عز فيه الوفاء تعلق الناس بالفارس، الصلب أمام العدا، الرقيق العذب أمام الزوجة الحبيبة والأطفال اليتامي. وهو على بأسه وشدته يبكي ويئن أنين من كسرت عظامه “كسير السلامى”. <br/> <br/>ترد مسلسلات رمضان على حكاية الغزو الثقافي من الفضاء. فليس مثل الدراما ما يعزز الهوية الثقافية. وعلى التنوع الهائل المعروض على الشاشات إلى أن معظم ما يبث من إنتاج في رمضان هذا العام وما سبقه يوثق ذاكرة الأمة من أيام الجاهلية مرورا بأزهى عصور الإسلام وصولا إلى سني الاستقلال. <br/> <br/>الأفكار تظل على قارعة الطريق، كما يقول الجاحظ، العبرة هي في الجماليات التي يتقنها كاتب القصة والمخرج والممثل وما يتاح لهما من إمكانات. وهو ما نجح فيه باب الحارة ونمر بن عدوان الذي يمر كثير من طلاب جامعة العلوم التطبيقية من أمام قبره يوميا في شفا بدران، ولا يعلمون أنه صاحب رنة هاتفهم النقال “البارحة يوم الخلايق نياما”. <br/> <br/>[email protected] <br/> <br/></p></div></h4>

هل تريد التعليق؟