قلّ أن عرف التاريخ البشري صمودا كالذي شهدته حمص في ظل حصار مطبق دام عامين. ولم يكن ممكنا، بحسابات البشر، مواصلة الصمود بإفناء من تبقى من مئات الجوعى والجرحى من أهلها ومقاتليها. وربما كان الصمود بحد ذاته خطأ استراتيجيا، ساهم في استمرار التهجير والتطهير العرقي والتدمير الشامل؛ إذ هُجّر أكثر من مليون من أهلها خارج وداخل سورية، ولو استسلمت المدينة مبكرا لأمكن التقليل من حدة الكارثة. لكنها مقادير جرت وصارت تاريخا للأجيال التي تروي قصة مدينة خالد بن الوليد التي تقمصته: “وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة من سيف أو طعنة من رمح”.
قبل شهر، كتبت هنا “خلال أيام، يكمل النظام السوري سيطرته على حمص، ويعلنها محررة من العصابات الإرهابية. في الواقع، لم يعرف التاريخ البشري صمودا أسطوريا كالذي صمدته حمص المحاصرة من زهاء عامين (600 يوم)، حيث لم يبق حجر على حجر، ولم يبق بشر. وكل ما أنجزه “جنيف2″ هو إخراج المدنيين المحاصرين؛ أي إتمام التطهير العرقي لواحدة من حواضر الشام التاريخية”.
يتصرف السوريون اليوم كشعب محتل من قوتين عظميين، هما إيران وروسيا، يتبع لهما نظام هو عبارة عن خليط من عصابات طائفية سورية ولبنانية وعراقية ويمنية. وكأي شعب محتل، تبقى مسألة التحرير مسألة وقت، لحين تغير المعادلات الدولية والإقليمية.
الخسارة الكبرى ليست خسارة حمص، بل خسارة سورية التي بفعل الإمبراطورية الإيرانية التي تعيد رسم المنطقة وفق خرائط “سايكس-بيكو” طائفية. ليس صحيحا أن حمص تعرضت لخيانة؛ لا يمكن بموازين القوة الحالية الصمود في وجه قوة إمبراطورية عاتية. وليس هذا تهويشا طائفيا، بل كلام رسمي نشر على وكالة فارس الإيرانية مساء الثلاثاء الماضي لأحد قادة الحرس الثوري، الجنرال حسين همداني، قال فيه إن بشار الأسد “يقاتل نيابة عن إيران”، وأكد استعداد بلاده لإرسال 130 ألفا من عناصر قوات التعبئة “الباسيج” إلى سورية، وتحدث عن تشكيل “حزب الله سورية”.
ولم تمض ساعات على نشر هذه التصريحات، حتى سارعت الوكالة القريبة من الحرس الثوري والأجهزة الأمنية الإيرانية إلى حذف الخبر، الذي كانت نشرته على صفحة “المحافظات الإيرانية”، بحسب موقع “بي. بي. سي” الناطق بالفارسية.
وكان همداني، وهو قائد سابق لـ”فيلق محمد رسول الله”، قد أعرب عن رضاه إزاء الوضع في سورية، زاعماً أن حكومة الأسد “تعيش ظروفاً أفضل مقارنة بمعارضيها”. وأكد العسكري الإيراني البارز “تشكيل حزب الله السوري”، الذي وصفه بـ”حزب الله الثاني” بعد حزب الله اللبناني، قائلاً: “بعون الله استطاع الإيرانيون تكوين حزب الله الثاني في سورية”.
وشدد على أن إيران “تقاتل اليوم في سورية دفاعاً عن مصلحة ثورتها”، معتبرا أن هذه الحرب “لا تقل أهمية عن الحرب العراقية الإيرانية”. وكان لافتا أن وسائل الإعلام الإيرانية تجاهلت هذا الجزء من تصريحات همداني.
بالمناسبة، المفاوضات على انسحاب المقاتلين من حمص شاركت فيها السفارة الإيرانية في دمشق. وهذا هو الواقع الذي علينا الاعتراف به والتعامل معه.
وللتذكير، القوات الأميركية في العراق كان عديدها 150 ألفا، وهو نفس العدد الذي يتحدث عنه همداني تقريبا. لكن الإمبراطورية الأميركية تعبت وانسحبت، وهذا ما سيتكرر مع الإمبراطورية الإيرانية التي يعميها وهم الانتصار في حمص.
حمص ستحرر عاجلا أم آجلا، والمليون حمصي لن يبادوا بالكيماوي. لكن الحرب طويلة؛ أطول مما توقع أهل حمص يوم اعتصموا سلما في ساحة الساعة قبل ثلاث سنوات.
هل تريد التعليق؟