في شعبان، الشهر الذي نتفيأ ظلاله هذه الأيام، يحتفل الشيعة العراقيون بما يسمونه “الانتفاضة الشعبانية المباركة”، وهي ذاتها التي كان يطلق عليها نظام البعث “صفحة الغدر والخيانة”. وفي تلك الانتفاضة سقطت في غضون أيام جل المحافظات التي تسكنها أكثرية شيعية بيد عناصر فيلق بدر المدعوم من الحرس الثوري الإيراني، وما كان الفيلق ليسيطر بهذه السرعة على رقعة جغرافية واسعة لولا السند الشعبي الذي وجده من السكان الشيعة، الذين ظلوا يشعرون بالتهميش والظلم.
في تلك الانتفاضة تخلت قوات التحالف التي كانت تحارب الجيش العراقي في الكويت عن الشيعة خشية التمدد الإيراني، وسمحت للحرس الجمهوري بسحق الانتفاضة واستعادة السيطرة على المحافظات الساقطة. تخلى العالم عن الشيعة إذّاك، حتى إيران لم تجد بدا من الانسحاب حتى لا تدخل في مواجهة مع قوات شوارزكوف الظافرة.
المشهد كان مرعبا، وقد تمكن المتمردون من تصويره وتهريبه إلى إيران لتستخدمه قناة بريطانية في إنتاج فيلم “قبور صدام”. ومن يشاهد الفيلم لا يملك غير التعاطف مع المقاتلين الذين ودعوا بعضهم معانقين. كانوا بأسلحة خفيفة يواجهون دبابات الحرس الجمهوري، وكانت النسوة والأطفال يعتصمون بالمرقد مستغيثين، والمآذن تناشد الأمة الإسلامية.. ولا من مجيب.
بعد عقد ونصف تبدلت الأحوال، وغدا المقاتلون المطاردون المشردون الذين لا ناصر لهم العمود الفقري لوزارتيّ الداخلية والدفاع، مسنودين بأعتى قوة عرفها تاريخ البشر. وفي الوقت الذي كان الحرس الجمهوري بدون غطاء جوي، تجد قوات الحرس الوطني والجيش العراقي سندا من الجو والبر من الجيش الأميركي (القوات متعددة الجنسيات!).
في شعبان اليوم، يجد المقاتلون في تلعفر أنفسهم معزولين عن العالم، اللهم إلا السند الشعبي من السنة، عربا وتركمان، مذكرين بالانتفاضة الشعبانية قبل عقد ونصف. ومن يرصد قاموس المقاومين في تلعفر وقاموس الحكومة العراقية المؤقتة هذه الأيام يجد تشابها كبيرا مع قاموس الانتفاضة الشعبانية في مطلع التسعينات. فما تتهم به سورية اليوم من دعم للمقاتلين اتهمت به إيران من قبل، ومظالم الشيعة بالأمس هي مظالم السنة اليوم. سيقال إن وزير الدفاع الحالي سني، لكن ألم يكن محمد حمزة الزبيدي الذي قمع الانتفاضة الشعبانية شيعيا؟
ما يجري في العراق حرب طائفية بفعل استراتيجيتين التقيتا لأسباب متناقضة؛ استراتيجية القاعدة التي سعت في رسالة الزرقاوي الشهيرة إلى الحرب على الشيعة حتى ينحاز السنة إلى المقاومة ضد الأميركيين، واستراتيجية إيران لفصل الشيعة عن محيطهم العربي والتمدد نحو منابع النفط والمراقد. ومهما قيل عن الأميركيين فلا مصلحة لهم في حرب كهذه، فهم يريدون عراقا موحدا تابعا لهم، لا عراقا تتقاسمه القاعدة والحرس الثوري الإيراني.
الأميركيون والحكومة العراقية لن يكونوا بحال بمستوى القوة التي تمتع بها نظام البعث حتى لحظة سقوطه، فهو نظام بنى سمعته على تراكمات من المؤسسات والممارسات الأمنية التي لم يكن ثمة حدود لسطوتها وقمعها، وهذا ليس في وسع من يجتاحون تلعفر وإن أرادوا. وفرق بين زمان كان تهريب شريط فيديو إلى إيران يحتاج إلى سنوات، وبين زمان تبث فيه القاعدة والجيش الإسلامي في العراق أشرطة الفيديو على الإنترنت خلال ساعات وربما دقائق.
انتصار الحكومة المؤقتة والقوات الأميركية في تلعفر يعبر عن انتصار طرف، وهو ما يعمق الغضب والسخط لدى الطرفين العربي السني والتركماني السني. وهو انتصار مؤقت، لأن السنة في العراق ليسوا من الضعف عسكريا وسياسيا بحيث يكونون لقمة سائغة، إنهم لقمة قد تخنق من يبتلعها. ليس استنزافا عسكريا فقط، بل سياسيا ساعة التصويت على الدستور، فالسنة لن يذعنوا ويصوتوا بـ”نعم”، بل سيمارسون حق النقض المكفول لكل ثلاث محافظات.
هل تريد التعليق؟