في الشهر الثامن من “طوفان الأقصى”، اكتملت ثماني جبهات ضدّ العدوّ امتدّت على مساحة الكوكب، فمن ضاقت بهم الأرض بما رحبت، وصُبّت عليهم أطنان القنابل في الأنفاق والشوارع والحارات، وتواصل حصارهم المُطبِق الذي حرمهم ضرورات الحياة، دواءً وغذاءً وماءً، وصرفاً صحيّاً ومحروقاتٍ، لا ضرورات المعركة من سلاح وذخيرة. هؤلاء، اتسعت أمامهم آفاق لم تفتح في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، وفتحت جبهة لم تكن في البال.
الأولى جبهة غزّة، لا تزال تقاتل وتبدع في المواجهة، وبحسب “يديعوت أحرونوت”، فإنّ عدداً كبيراً من مقاتلي “حماس” غادروا رفح باتجاه خانيونس (!) وكأنّه لم يمسسهم سوء، هذا كلّه، وسط حصار جوي وبري وبحري. ومن دونها جبهات: الضفّة ثانيةً، وحزب الله في لبنان وسورية ثالثةً، واليمن رابعةً، والعراق خامسةً، وإيران سادسةً، ومحكمة العدل الدولية سابعةً، والثامنة جبهة في الجامعات.
بعيداً عن حماستنا، لنقرأ كيف ينظر الأميركيون إلى الجبهة الثامنة، خصّصت “التايم”، أبرز المجلّات الأميركية، غلافها لثورة الطلاب، وعنونت بـ”انتفاضة الحرم الجامعي”، وقالت: “لم تبدُ الجامعات الأميركية على هذا النحو منذ أكثر من خمسين عاماً، وليس للعوامل التي تُحرّكها الآن. كانت الحرب الخارجية التي احتج عليها الطلبة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، هي الحرب التي هدّدت حياتهم، حتّى وسط تأجيل التجنيد. إن ما دفع الطلاب إلى المخاطرة بسلامتهم، والتحاقهم بكلياتهم، ومهنهم المستقبلية في مئات الجامعات هذا الربيع، هومقتل آخرين؛ 34 ألف فلسطيني قتلوا في قطاع غزّة”. وتعتبر المجلّة “هذا هو الصراع الذي أعاد الكليات الأميركية إلى مكانتها، باعتبارها البوتقة التي تعمل من خلالها الأمة على حلّ أسئلتها الأخلاقية”.
ولعلّ الجامعات هي الجبهة الأكثر أهمّية، التي هزّت العدو استراتيجياً، فالجامعات الأميركية هي من دفع الرئيس جو بايدن إلى قراره، الذي يمكن وصفه بالتاريخي، تقييد تصدير السلاح إلى إسرائيل، وهو قرار مفاده، بحسب المحلّل السياسي لـ”يديعوت أحرونوت”، نداف إيال، أنّ “بايدن عملياً قرّر إنهاء الحرب”، ونقلت هيئة البثّ الرسمية عن مسؤول إسرائيلي: “قد نغيّر خططنا العسكرية بسبب عرقلة الولايات المتحدة شحنات الأسلحة”. القناة 12، وصفت القرار بـ”الصفعة على الخدّ من إدارة بايدن، الهدية التي انتظرها يحيى السنوار”.
في هذه الحرب بدا واضحاً أنّ إسرائيل تعتمد بالكامل على أميركا في خوض الحرب واستمرارها، سواء في القنابل الخارقة للتحصينات أو في الحماية من الصواريخ والمُسيّرات أو في المعلومات الاستخباراتيّة الدقيقة أو في التنصّت أو في تأمين الحماية من القرارات الدولية، من خلال مجلس الأمن ومحكمتي العدل الدولية والجنائية الدولية. أرسلت الولايات المتحدة عشرات الآلاف من القنابل وقذائف المدفعية والذخائر الأخرى إلى إسرائيل، في الأشهر الأولى من الحرب. وجاءت معظم هذه الأسلحة من مبيعات عسكرية أميركية تمّت الموافقة عليها مسبقاً، ودُفع ثمن معظمها مليارات الدولارات من تمويل الحكومة الأميركية لدعم إسرائيل. نظّمت واشنطن أكثر من مئة عملية نقل أسلحة فردية إلى إسرائيل. الولايات المتحدة زوّدت إسرائيل بقنابل كبيرة خارقة للتحصينات، من بين عشرات الآلاف من الأسلحة الأخرى وقذائف المدفعية. وقال المسؤولون إنّ موجة الأسلحة، بما في ذلك ما يقرب من 15 ألف قنبلة و57 ألف قذيفة مدفعية، بدأت بعد وقت قصير من هجوم 7 أكتوبر (2023)، واستمرّت في الأيام الماضية. ولم تكشف الولايات المتحدة من قبل العدد الإجمالي للأسلحة التي أرسلتها إلى إسرائيل، ولا نقل مائة قنبلة “BLU – 109″، وهي قنبلة خارقة للتحصينات، تزن ألفي رطل. يُظهر الجسر الجوي لذخائر بمئات ملايين الدولارات التحدي الدبلوماسي الذي يواجه إدارة بايدن. وتحثّ الولايات المتحدة حليفها الأكبر في المنطقة على النظر في منع وقوع خسائر كبيرة في صفوف المدنيين، أثناء إمداده بعديد من الذخائر. يكشف حجم السلاح هذا أهمية قرار التقييد، ولو كان قراراً مؤقّتاً، ومن المفارقة أنّه غداة قرار تقييد تصدير السلاح وجّه 11 عضواً في الكونغرس الأميركي، الخميس الماضي، رسالة إلى الرئيس بايدن، زعموا فيها أنّه لا يتصرف بما فيه الكفاية ضدّ محكمة العدل الدولية في لاهاي في تحركاتها ضدّ إسرائيل، وجاء فيها: “نكتب للتعبير عن قلقنا بشأن التقارير الأخيرة حول النيّة المحتملة لمحكمة العدل الدولية في لاهاي لإصدار أوامر اعتقال ضدّ رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير الدفاع ورئيس الأركان… نطلب منكم الوقوف ضدّ تحركات المحكمة المتوقّعة وإدانتها. عليكم أن تفعلوا المزيد أمام المحكمة”.
سخر نتنياهو، خلال الأسابيع الماضية، من تسريبات وسائل الإعلام الأميركية بشأن احتمال فرض تقييد أسلحة، وصار يتحدّث عن زيادة إنتاجات الصناعات العسكرية الإسرائيلية الداخلية. وكعادته، شكّل لجاناً، وهذه اللجان لا تجتمع أو لا تتّخذ قراراً، ورافقت ذلك تسريبات في الإعلام الأميركي والإسرائيلي عن حجم الصفقات المُنفّذة. ما أعلنه الرئيس بايدن أهم إعلان في تاريخ العلاقات العسكرية بين إسرائيل والولايات المتحدة. سبق لأميركا أن فرضت حظر أسلحة على إسرائيل خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، لكن مع فارق مهم جدّاً. في ذلك الحين، لم تكن إسرائيل تعتمد على السلاح الأميركي بالمطلق. والقرار الأميركي يشكّل إغراءً لكلّ الدول الغربية التي تصدّر السلاح لإسرائيل، وقد بدأت كندا وبريطانيا، وغيرهما، خطوات شبيهة. ما كان ذلك ليكون، لولا جبهة الجامعات التي فتحت على الرئيس الأميركي، فهو يدرك أنّ هؤلاء الطلبة قادرون على حسم نتيجة الانتخابات. ليس من خلال المزاج الثوري العام الذي صنعوه فحسب، بل من خلال التصويت المنظّم في الولايات المتأرجحة أيضاً، وبخاصة ميشيغن، التي صوّت مئة ألف فيها ببطاقة بيضاء، احتجاجاً على سياسته في غزّة. وعبّر نتنياهو عن استيائه بتسريب عبر اسمه المُستعار “المصدر السياسي” أنّ بايدن “باع إسرائيل من أجل ميشيغن”.
تعتبر ميشيغن حالة فريدة، إلى حدّ ما، بسبب العدد الكبير من السكان العرب الأميركيين في الولاية، الذي يوفّر نواة مُتحمّسة بشكل خاص لحركة الاحتجاج. لكن العداء الطلابي للحرب امتد إلى نطاق واسع من الناخبين الشباب ذوي الميول اليسارية، الذين يُعوّل عليهم الديمقراطيون. وقال ناشط لـ”نيويورك تايمز” إنّه في ميشيغن، على سبيل المثال، هناك حوالي ثمانين مجموعة جامعية تشكّل جزءاً من تحالف التحرير، بما في ذلك منظّمات تمثّل الطلاب السود واللاتينيين والآسيويين واليهود. وفي الاتجاه نفسه، قال لي بن رودس، الذي يشارك في استضافة بودكاست شهير يستهدف في المقام الأول الشباب الليبراليين “Pod Save the World”، إنّ الأمر لا يقتصر على “الأميركيين العرب والمسلمين في ميشيغن أو اليساريين في السياسة الخارجية فحسب… إنّه هذا النوع من التيار السائد للجزء الشاب من التحالف الديمقراطي”. “فاينانشال تايمز” قارنت الاحتجاجات بنظيرتها ضدّ حرب فيتنام، التي خلقت خلفية ضارة لمؤتمر الحزب الديمقراطي في عام 1968، وساعدت في تمهيد الطريق لانتصار الجمهوري ريتشارد نيكسون على هيوبرت همفري، في السباق إلى البيت الأبيض، في وقت لاحق من ذلك العام: “قل كلمتك جو بايدن ضدّ دونالد ترامب: أخبرنا كيف ستؤثر عليك الانتخابات الأميركية لعام 2024، مع أقل من أربعة أشهر قبل انعقاد المؤتمر، يسير بايدن على خط رفيع للغاية بين إدانة الاحتجاجات غير المقبولة وعدم تنفير الناخبين التقدّميين الشباب، الذين يحتاجهم للمشاركة”.
وبحسب “أكسيوس” اعتقل في أميركا أكثر من 2900 شخص خلال الاحتجاجات المُؤيّدة للفلسطينيين، في 61 حرماً جامعياً على الأقل، في جميع أنحاء الولايات المتحدة في الأسابيع الأخيرة. وفي استطلاع نشره “أكسيوس”، كان واضحاً أنّ الهدف منه هو إقناع بايدن بعدم أهمية انتفاضة الجامعات، لكن ظهر العكس، فصحيح أنّ أولوية القروض الجامعية تتقدّم القضية الفلسطينية، لكن لا توجد قضية تنافسها في السياسات الخارجية، وفوق ذلك، لم ينتفض الطلبة احتجاجاً على أقساط الجامعة والقروض، ولا من أجل الرعاية الصحية، وغيرها. انتفضوا من أجل فلسطين، فالقضية لم تعد هجوم 7 أكتوبر، ولا ما رافقه من أكاذيب ودعشنة “حماس”، ووصم الفلسطيني بالإرهاب، بقدر ما عادت إلى مربّعها الطبيعي، قضيةَ عدالة تستفزّ الضمير الإنساني، تذكّر بانتفاضة الطلاب ضدّ الحرب في فيتنام، وغيرها من قضايا كبرى. لكن أغلبية من المشاركين، في آخر استطلاع، تحت سن 45 عاماً، أيّدوا الاحتجاجات (40%)، وكانت نسبة الديمقراطيين 46%، وفي بداية الحرب، برّر 51% من الشباب العنف الذي مارسته “حماس” في 7 أكتوبر، بالظلم الذي تعرّض له الفلسطينيون.
منذ سنوات كانت ثورة الجيل تختمر، حتى جاء فصيل فلسطيني وفجّر الصاعق الذي أشعل ثورة جيل تتجاوز معركة فصيل. وهذا الفصيل ينتمي مقاتلوه إلى جيل الجامعات وهم بين 18 و30 عاماً. وهم مقاتلون لم يعرف العالم نظيراً لصبرهم وبأسهم وشجاعتهم، وإيمانهم وأخلاقهم، شكّلوا نموذجاً للعالم الذي يتعاطف مع الضحايا، لكن ما يلهمه هم الأبطال. وامتدت الثورة الطلابية خارج أميركا إلى أوروبا، وبحسب “فايننشال تايمز”، فإنّ السلطات “ليست سعيدة تماماً بهذه الاضطرابات”. السياق: أدى تفريق الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين في جامعة كولومبيا في نيويورك، والتي بدأت الشهر الماضي، إلى تحفيز الطلاب في جميع أنحاء أوروبا، الذين يطالبون، أيضاً، المؤسسات الأكاديمية، بقطع العلاقات مع إسرائيل، واتخاذ موقف في الصراع المستمر… فرّقت الشرطة الألمانية متظاهرين أقاموا معسكراً في جامعة برلين الحرّة. ووجهت الجامعة اتهامات بالتعدّي على ممتلكات الآخرين والتخريب، وفي هولندا المجاورة، فضّت الشرطة مظاهرة مماثلة، في وقت سابق من ذلك اليوم، في جامعة أمستردام، واعتقلت عشرات الأشخاص. وفي بروكسل، احتلّ الطلاب مبنى الجامعة الحرّة الناطقة بالفرنسية، وطردت الشرطة في فرنسا بشكل متكرّر المتظاهرين من معهد العلوم السياسية الشهير في باريس. وقد لفت هذا الأمر انتباه المستويات العليا في فرنسا، إذ حذّر رئيس الوزراء غابرييل أتال من “السخط الانتقائي”، الذي “يجب أن يتوقف من جانب أولئك الذين يرفعون صوتهم دائماً ضدّ إسرائيل، ولكنّهم لا صوت لهم في مواجهة حماس وتجاوزاتها”. في أيرلندا، قام الطلاب، الذين يخيّمون في أراضي كلّية ترينيتي في دبلن، بمنع الوصول إلى مخطوطة كتاب كيلز القديمة المُخزّنة هناك. وقالت “ترينيتي” إنّها “تتضامن مع الطلاب في رعبنا مما يحدث في غزّة”… واحتجاجات في جامعات في النمسا وفنلندا والدنمارك وإسبانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة.
ودخلت جامعات سويسرية على خط الاعتصامات والاحتجاجات تضامناً مع غزّة، بعد أن امتدّت احتجاجات جامعة لوزان إلى جامعات أخرى، تخشى رئيسة الجامعات السويسرية، لوسيانا فاكارو، “من تدهور الوضع”، كما تقول. وتضيف: “علينا أن نستعد لانتشار الاحتجاجات إلى أبعد من ذلك”. وبعد جامعة لوزان، احتلّ جامعة جنيف، والمدارس الفيدرالية للفنون التطبيقية في زيورخ ولوزان، طلاب مناصرون لفلسطين. هل نتوقع أن تنتشر الحركة بشكل أكبر في المستوى الوطني؟
خلال الأسابيع القليلة الماضية، ظهرت معسكرات احتجاج مؤيّدة للفلسطينيين في سبع جامعات، على الأقلّ، في جميع أنحاء أستراليا، والهند، وكندا، وغيرها. هذا كلّه، وجامعات أكبر بلد عربي مجاور لغزّة لم تتحرك. إن تحركت فكلّ شيء سيتغيّر.
هل تريد التعليق؟