توجد مبالغة في الحديث عن جبهة النصرة من أكثر الأطراف؛ مبالغة في تقدير دور الجبهة أو التقليل منه على السواء، بقدر المبالغة في شيطنتها أو الدفاع عنها. وهذه المبالغة لا تخدم القضية السورية التي توشك أن تدخل عامها الثالث؛ ما يخدمها هو التعامل مع الوقائع كما هي، سواء ما تعلق بالنظام أو بالثورة.
بداية، النظام السوري والأميركيون هما أكثر الأطراف مبالغة في الحديث عن النصرة، ولكل أسبابه. فالنظام، منذ اليوم الأول للثورة، لم يتعامل معها باعتبارها ثورة حرية وكرامة، بل مارس أسوأ أشكال العنف والإجرام بحقها، متذرعا بأن الثوار السلميين هم عصابات سلفية إخوانية قاعدية إرهابية.
في المقابل، ولحسابات أميركية وإسرائيلية وإقليمية معقدة، أراد الأميركيون إعفاء أنفسهم من المسؤولية الأخلاقية تجاه الجرائم التي يتعرض لها الشعب السوري، من خلال الحديث عن جبهة النصرة باعتبارها تنظيما إرهابيا مرتبطا بالقاعدة، سرق الثورة السورية. وبالتالي، فرضوا حظرا على تسليح الثوار خشية وقوع السلاح بيد التنظيم غير المنضبط الذي يهدد إسرائيل والمصالح الأميركية.
بالنتيجة، قويت جبهة النصرة وتجذرت. فأمام إرهاب النظام وحلفائه من إيران وحزب الله وروسيا، ذوت شعارات الحرية والكرامة والدولة المدنية والمواطنة، لصالح دعوات الثأر والانتقام المستندة إلى الخطاب العنيف الذي يشخص ما يجري بأنه معركة طائفية ضد أهل السنة. لكن ذلك كله لم يكن كافيا وحده لتقوية جبهة النصرة؛ فالتخاذل الدولي عزز نظرتها إلى الغرب عموما بوصفه مخادعا يتآمر على أهل الإسلام سرا، ويظهر التعاطف الكاذب علنا.
ميدانيا، استفادت جبهة النصرة من الدرس العراقي، فلم تتورط في عمل إرهابي يستهدف المدنيين، وتمتعت بخبرة قتالية عالية، وحظيت بالقبول حتى في أوساط مسيحية، وظلت بشهادة كثير من المراقبين واحدة من أكثر التنظيمات انضباطا وحرفية في القتال. والمواطن السوري الذي تعامل مع جبهة النصرة عن قرب، يتحدث عن جماعة أخرى غير التي يروج لها في إعلام النظام السوري أو تصريحات المسؤولين الأميركيين.
هذا لا يعني الوقوع في المبالغة المضادة. النصرة ليست الثورة السورية التي ولدت تفيض عفوية وسلمية ورقة. هذه الثورة مخاضها في مثل هذه الأيام، عندما اعتقل الضابط المتوحش مدير الأمن السياسي في درعا، وهو من خؤولة بشار، أطفال درعا وسامهم سوء العذاب، بعد أن كتبوا على جدران المدرسة “الشعب يريد إسقاط النظام”.
يجب التذكير دائما بأنها ثورة سابقة لكل التنظيمات، معتدلة ومتطرفة. عندما ذهب الوجهاء إلى عاطف نجيب، رد عليهم الرد الجارج للكرامة والشرف، فكان أن تنادى الشباب في بيت أول من كبر في جامع الحمزة والعباس الشهيد علي المسالمة، ولم يخبروا بتحركهم غير الشيخ أحمد الصياصنة. هؤلاء الشباب لم يكونوا في أي تنظيم، ولم يكونوا عاطلين عن العمل، ولم يتلقوا تعليما عاليا؛ كانوا كأكثرية شباب سورية الذي يتوق للحرية والكرامة.
هؤلاء الشباب غير “النصرة”؛ فهم لم يحملوا السلاح، وهتفوا أمام زخات الرصاص “سلمية.. سلمية”. النصرة تنظيم عسكري، له هوية فكرية وسياسية غير هوية الثورة السورية. شباب النصرة جلهم سوريون، لكنهم لا يؤمنون بالدولة المدنية الديمقراطية. وهذا التصور يحتاج نقاشا وحوارا، لا تصنيف الجبهة باعتبارها عدو الشعب السوري.
في أسوأ الأحوال، “النصرة” إرهاب محتمل مستقبل، والنظام إرهاب مؤكد جاثم وعريق وعميق. واستفحال هذا الإرهاب هو ما استدعى ردات فعل “النصرة” وغيرها. وتآمر العالم على الثوار المعتدلين، من خلال حظر السلاح، لن يؤدي إلى ضعف “النصرة”، بل سيؤدي إلى تحول الجماعات الأخرى باتجاهها. إن خذلان الثورة السورية على مستوى العرب والعالم، جعل الشباب العربي يلتحق بالنصرة، إبراء للذمة.
هل تريد التعليق؟