مقالات

جوزف سماحة: من يخترق الخطوط الحمراء؟

كان في المراحل الأخيرة من الاستعداد لإطلاق جريدة الأخبار، وكانت حرب تموز في أوجها، الحماسة والانقسام بلغا ذروتهما في المجتمع اللبناني، والنخبة اللبنانية كانت قد بدأت في نصب متاريس الحرب الأهلية المزمعة. التقيت الراحل الكبير جوزف سماحة في مكتبه في بيروت في هذه الظروف. كان كما هو قامة لا تميلها الريح العاتية. مواقفه وتحليلاته تستند على أرضية صلبة من الفكر والثقافة والاطلاع والخبرة، والأهم نزاهة مبدئية تجنبه الانزلاق الطائفي أو المصلحي.

لست ممن يعرفونه في سني نضاله أو ممن اقتربوا منه شخصيا، عرفته كاتبا في الحياة. كانت مواقفه هي ذاتها في السفير من قبل ومن بعد. علّقت مرة على ما كتبه عن إيران في عهد خاتمي، قارن حينها بين حراك المجتمع الإيراني الحي الذي عبرت عنه الجامعات الإيرانية وخواء المجتمعات العربية، لم أتوقع أن يرد على كلمات أرسلتها بالفاكس. فاجأني باتصال من لندن وحوار مطول على الهاتف.

لم يكن كاتبا “مكتبيا” لا يغادر أربعة جدران. أبرز تحقيق ميداني عن الجناح العسكري لحزب الله “المقاومة الإسلامية” نشره جوزف في الحياة. ولم يكن مستغربا أن تفتح أبواب الحزب الموصدة لصحافي مسيحي علماني. فهو اليساري أينما حط عصا الترحال، لم يكن اليسار بالنسبة إليه التحاقا بالمعسكر الاشتراكي، كان يساريا حقيقيا، وظل كذلك بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، ولم يبحث له عن مقعد في القطار الأميركي الهادر. أفردت له “الحياة” مساحة كبيرة على صفحتها الأولى ليروي قصة انهيار جدار برلين. ما تزال تلك القطعة من “عريض الأولى” تشدني بكل ما فيها من ألق. كتابته تنطبق عليها مقولة فوكو “الشكل يحقق المضمون”، وتكاد تقول إنه أفضل من يكتب بالعربية على طريقة “أشعر العرب”.

 رحل جوزف رحيلا يليق به. مثقف بجرأته كان من المفترض أن يقضي بعبوة ناسفة أو طلقة كاتمة أو قصف في أتون المعارك، أما أن يقضي نائما في برد لندن فذاك المستبعد. موته جسّد إنسانيته ونزاهته ووفاءه، ترك صحيفته في أدق الظروف التي تمر بها بيروت، وهو الواقف على ثغرة مهمة لقوى المعارضة ليقف إلى جانب صديقه الكاتب حازم صاغية الذي كان يستعد لمواراة زوجه المثقفة والفنانة مي غصوب في رحلة قاسية من لندن إلى بيروت. حازم المكلوم بزوجته فجع بصديقه الذي ترك بيروت ليعاضده، لم يستيقظ جوزف تاركا حازم وأصدقاءه تتكسر عليهم النصال.

لتعرف ما يجري في بيروت كان لا بد من قراءة حازم صاغية وجوزف سماحة، لم يكونا متطرفين في حدين أقصيين، كتابتهما تمثل عمقا وصدقا ونزاهة وإن اختلفا مائة وثمانين درجة. الكذبة الدارجة في الأوساط العربية “اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية” حوّلها جوزف إلى حقيقة في صداقته مع حازم، ورحيله الهادئ وهو الصاخب الهادر كشف عن معدن تفتقده النخب اللبنانية والعربية عموما.

في اللقاء الأخير دعاني للكتابة في “الأخبار”، سوّفت، ولم أكتب، ولم أكن أدري أنْ سأكتب عنه لا له. وأتساءل من سيخترق الخط الأحمر (عنوان زاويته) من بعده؟

هل تريد التعليق؟