مقالات

حتى تكون الحكومة محظوظة

ابتسم الحظ للحكومة عندما أخذت أسعار المحروقات بالانخفاض، ولو ظلت بمعدلها السابق لواجه الناس الشتاء الأسوأ في تاريخهم. وبدا وكأن ما جرى سباق تحمل يوطن المجتمع الاستهلاكي على الصبر وتدبير الأمور بأقل النفقات.

وحسادها يرون أن الحظ رافقها عندما بدأت عهدها برفع الأسعار ولم تشهد أي مظهر احتجاجي، وحافظ رئيسها في استطلاع المائة يوم على معدل شعبيته التي كان يتوقع أن تتضرر كثيرا من جراء القرار غير الشعبي. في انخفاض الأسعار تكشف أن ثقافة الاحتجاج لا تغيب في التعامل مع القرارات الحكومية بل مع التجار.

 فتعامل أغلب المحطات التي ربحت من ارتفاع الأسعار مع المواطن لم يكن إنسانيا ولا شفافا عندما انخفضت.

فلا يجوز الامتناع عن بيع سلعة حيوية بسبب الخلاف مع الحكومة على آلية التسعير، والمواطن الذي كان يقرأ على المحطة عبارة “لا يوجد بنزين” يغادر باحثا عن أخرى، ولا يفكر في الاحتجاج ورفع صوته.

وفي اليوم التالي يصطف في دور مديد بأدب ودماثة غير معهودين في تعامله مع أمه أملاً في “تسكير” فم السيارة الفارغ. وتستمر المسالمة في التعامل مع التجار المرتبطة سلعهم بأسعار المحروقات – بما فيها المدارس الخاصة – ولا يفكر في الاحتجاج. لا تعني ثقافة الاحتجاج ممارسة العنف. ففي بلد مثل أميركا وصل أوباما إلى الحكم من خلال إرث الاحتجاج على سياسة الرق والتمييز.

 لا يعني الاحتجاج أن يحرق المواطن محطة الوقود، يكفي مثلا أن يتجمع أطفال أمام المحطة ويرفعوا لافتات “نريد الذهاب إلى المدرسة” ويفزع الإعلام لنصرتهم، ويتداعى رئيس البلدية والنائب والعين والحزب والنقابة “أين النقابات؟ أيتعارض ذلك مع مقاومة التطبيع؟” وفي المدارس الخاصة يمكن أن يعتصم الطلاب، وفي المطاعم ممكن أن تقاطع و.. لا داعي لوصف الاحتجاج بـ”السلمي” فكل عمل دستوري وقانوني بالضرورة هو سلمي، والدولة وحدها تملك حق ممارسة العنف بإطار القانون.

 أما الفرد الذي يمارس العنف فهو يمارس جريمة مثل السرقة والغش. وبقدر ما يرتفع معدل العنف في المجتمعات غير الديمقراطية يقل عندما يستطيع المواطن أن يحتج. لذلك لم تشعر الدول الغربية، وهي الأكثر استهلاكا للنفط، بالقلق من مواطنها بسبب ارتفاع الأسعار بقدر ما قلقت عليه. تستكمل الحكومة حظها عندما تبني ثقافة الاحتجاج، وهي من ركائز الإصلاح السياسي.

فكيف يمكن أن تنمو الحياة الحزبية ولا يستطيع حزب أن ينظم احتجاجا (اعتصام أو مظاهرة أو توقيع عرائض أو..) من دون إذن المحافظ؟ ليس قانون الاجتماعات العامة وحده يحتاج إلى تعديل، فمؤشر الخوف يصل لدينا إلى ثمانين في المائة، وهذا حصاد الخراب السياسي المتراكم من سنوات. هل يمكن تحقيق الإصلاح المنشود بمواطن خائف؟ تحتاج الحكومة إلى ثقافة الاحتجاج أكثر من غيرها، وفي قضية التسعير دليل يستحق التأمل.

فعلى أهمية دور الدولة التدخلي بعودة وزارة التموين أم بغيره لا يمكن أن ينتظم السوق بدون صلابة المستهلك. ينطبق ذلك على المخابز والمدارس والجامعات والمستشفيات وغيرها من القطاعات الاستثمارية.

 ومن الطريف أن قلة من طلاب الجامعات الحكومية يحتجون على ارتفاع الرسوم، المنخفضة نسبيا، في وقت يذعن طلاب الجامعات الخاصة.

تاريخيا، ولد التحول الديمقراطي في الأردن من رحم “هبة نيسان”، الاسم اليساري للاحتجاج العنيف على ارتفاع أسعار المحروقات في أحداث معان عام 1989. لم يكن ذلك العنف ليقع لو كان في معان إعلام يوصل مطالب سائقي عمان –معان لتعديل أجورهم وفق ارتفاع الأسعار، وما كانت لتقع لو نقل الإعلام أخبار إضرابهم الذي لم يسمع به أحد وما كان وما كان..

تستكمل الحكومة حظها عندما تمارس دورا تدخليا في الإصلاح السياسي، كما في الاقتصادي، وسيقبل منها أن يكون سنويا، لا أسبوعيا أو شهريا كما في المحروقات.

هل تريد التعليق؟