مقالات

حتى في أعرق الديمقراطيات.. التحريض مدمر!

تظل مناعة الجسم هي خط الدفاع الأول في الأفراد والمجتمعات. في ديمقراطيات راسخة كالولايات المتحدة الأميركية، توجد قوانين وتقاليد صارمة تمنع التحريض والعنصرية وثقافة العنف. وجاء ذلك بعد أن فقدت البلاد كثيرا من رموزها، مثل مارتن لوثر كنغ ومالكوم إكس وغيرهما. ومع ذلك، لم تسلم من حوادث؛ ليس تلك التي استهدفت عربا ومسلمين وذوي ملامح شرق أوسطية، فأوباما نفسه في قلب الاستهداف، وهو يوصف في الإعلام اليميني المتطرف بأنه شيوعي و”قاعدة” ومثلي. في السنة الماضية مرت حادثة مروعة مرور الكرام.
هذا المشهد تتخيله في بلد قبلي غارق في حرب أهلية: “في صباح نيّر من صباحات يوم السبت لمدينة توسون في ولاية أريزونا الأميركية، وفي إحدى مجمّعات التسوق في المدينة، حيث كانت النائب الديمقراطية عن الولاية غابرييل غيفوردز، تدير اجتماعا مفتوحا مع ناخبيها للاستماع إلى اقتراحاتهم واحتياجاتهم التي يطلبون من ممثليهم في الكونغرس تحقيقها، اخترق أزيز الرصاص صفاء المكان ليسفر عن مجزرة لم تعرفها الولاية في تاريخها!
عشرون رصاصة انطلقت من فوهة مسدس نصف آلي، أطلقها شاب له من العمر 22 عاما، ويدعى غاريد لوفنر، على كلّ من حضر الاجتماع السياسي ذاك، مستهدفا أول ما استهدف رأس النائب غيفوردز، حيث أطلق عليه رصاصته الأولى ليرديها متأثرة بجراحها، وليتابع عملية القتل المبرّح التي وقع ضحيتها ستة أشخاص، بينهم طفلة في التاسعة من عمرها طلبت من أهلها اصطحابها إلى لقاء النائب لأنها “مهتمة بالشأن السياسي، وكانت قد انتخبت في مدرستها مؤخرا رئيسة لمجلس الطلبة لنشاطها اللافت في العمل المدني”، حسبما أفادت والدة الطفلة وهي تغصّ بالدمع والكلمات إثر مقتل ابنتها الوحيدة. وقد أسفرت تلك المجزرة المرعبة عن جرح 13 شخصا آخرين كانوا متواجدين في مكان الاجتماع للتسوّق. ذلك المشهد، بحسب الكاتبة مرح البقاعي، جاء جريمة في سياق معركة انتخابية طاحنة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي خلال انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، والتي جرت في شهر تشرين الثاني 2010، حيث تمكّن الحزب الجمهوري من إحكام  السيطرة على مجلس النواب إثر تصفيات انتخابية أقلقت صفو التنافس فيها تصريحات سياسية مشحونة بشأن قضايا شائكة، وفي مقدّمتها الحملة التشريعية التي قادها الحزب الديمقراطي لإصلاح نظام الرعاية الصحية الأميركي، وكذا إصلاح قوانين الهجرة. وكانت النائب-الضحية غيفوردز قد حذرت في وقت سابق “أن اللهجة الخطابية السياسية المتشنجة بين الأطراف المتنافسة كانت قد سبّبت شحنا سياسيا عاليا، طالها شخصيا، في رسائل تهديد عديدة تلقتها، وكذا في عملية اعتداء وتخريب متعمّد لمكتبها”.
فأميركا التي أنتجت طفلة في التاسعة مهتمة بالسياسة والشأن العام، هي ذاتها التي أنتجت شابا مجرما دمويا. ما يهمنا هنا أن أجواء الربيع العربي عزلت إلى درجة كبيرة تيارات العنف، وأسست لثقافة سلمية مدنية. غير أن تعثر الإصلاح أو تباطؤه شجع عناصر فوضوية على إنتاج ثقافة عنفية.
في المشهد الأميركي المروع درس يجدر تعلمه. فإن كانت مناعة المجتمع الأميركي لم تصمد أمام ثقافة التحريض، فكيف في مجتمعاتنا الهشة؟

هل تريد التعليق؟