لن يطالب أحد بالتحقيق فيما شهده مخيم البارد في شمال لبنان. وستطوى صفحة المواجهات باعتبارها نصرا مؤزرا للجيش اللبناني في أول حروب القرن التي يخوضها. هل فعلا نفذت مجموعة “فتح الإسلام” الكمين الذي أودى بحياة العسكريين اللبنانيين؟ أم أن طرفا ثالثا (وهم كثر) يرغب في تصفية الوجود الفلسطيني في لبنان بشريا وعسكريا؟
وعلى افتراض صحة اتهام “فتح الإسلام”؛ فهل نفذ الجيش اللبناني عملياته العسكرية وفق القواعد الدولية التي تحترم حياة المدنيين العزل؟ أسئلة كثيرة أخرى لن يجاب عنها من خلال جهات تحقيق مستقلة، فالفلسطينيون سواء كانوا في غزة أم في البارد حالهم كما قيل: “لو كنت من مازن لم تستبح إبلي..”
غير أن غياب الإجابات والتشويش في المعلومات لا يغطي البديهيات التي يجدر التذكير بها. في علم السياسة تحتكر الدولة القوة المنظمة. ولا يجوز لأي جهة إنشاء تنظيمات عسكرية خارج إطار الدولة. سبب الحرب الأهلية في لبنان كان بسبب وجود ميليشيات خارج إطار الدولة. وجاء اتفاق الطائف ليعيد احتكار الدولة للسلاح المنظم. لكن في التطبيق ولاعتبارات كثيرة ظل سلاح حزب الله وسلاح المخيمات خارج إطار الدولة، وإن كان بعلمها وخاضعا إلى درجة كبيرة لحساباتها.
وحتى بعد اغتيال الحريري لم يكن السلاح الفلسطيني موضوعا ساخنا في لبنان. تقدم عليه سلاح حزب الله وخصوصا بعد حرب تموز. وللمرة الأولى غدا فريق السلطة يتحدث عن سلاح حزب الله باعتباره خارج الشرعية. بل صادر الجيش اللبناني بالفعل صواريخ حاول الحزب تهريبها للجنوب. في المقابل لم تكن تخفي أوساط المعارضة قلقها من استخدام فريق السلطة للسلاح الفلسطيني في حسابات داخلية. وجرى حديث عن دعم تيار المستقبل لتنظيم جند الشام ولتنظيمات سلفية جهادية لمواجهة سلاح حزب الله.
بالنتيجة بدأت الدولة بتنفيذ استحقاق نزع السلاح الفلسطيني، وهي مهمة سهلة لو أديرت بكثير من السياسة وقليل من القوة. فالفلسطيني في لبنان يعامل بعنصرية فاضحة تنظمها تعليمات الدولة ولوائحها وقوانينها. فخلافا للبشر الذين يعيشون على سطح الكوكب لا يحق له مزاولة خمس عشرة مهنة ولا يحق له التملك أو ممارسة حياته الطبيعية. التطبيق القاسي لتلك السياسة جعل المخيمات عبارة عن أكداس لبشر غاضبين ساخطين يائسين يمكن أن يعاد بعث الألوية الحمراء الإيطالية فيهم. وبدلا من الضغط السياسي على إسرائيل واستثمار معاناة اللاجئين لفضح عدوانيتها عومل اللاجئون بسادية وفاء لحق العودة!
إسرائيل خارج إطار النقد في المعركة المحتدمة. بديهية أخرى. فالإرهاب هو اقتناء مائة وخمسين فلسطينيا وعربيا لسلاح يقولون إنه لمحاربة الاحتلال، وشاكر العبسي يجب أن يقدم لمحكمة جرائم الحرب الدولية، أما شارون فهو على سرير الشفاء الطويل بانتظار جنازة تاريخية يندب فيها كثيرا على فقد آخر صناع السلام. أما شركاؤه في القوات اللبنانية وعلى رأسهم سمير جعجع فهم منشغلون اليوم بإرساء قواعد المجتمع الديمقراطي الحر القائم على احترام حقوق الإنسان!
لا داعي للسلاح الفلسطيني في لبنان اليوم. وهو كذبة لا معنى لها. أهم فصيل فلسطيني مقاوم هو حماس وليس لديها قطعة سلاح في لبنان، فلماذا تحرص التنظيمات الأخرى على اقتناء سلاح غير قادر على حماية الفلسطينيين ولا على محاربة إسرائيل. ولا يجوز أن يستخدم هذا السلاح الصدئ في حسابات لبنانية داخلية لا علاقة لها بالصراع مع إسرائيل، بل يستغل من قبلها ومن قبل حلفائها لتشويه المقاومة الفلسطينية.
يسهل حل عقدة السلاح في المخيمات إذا ما قورنت بسلاح حزب الله. فالبديهي أن الدولة في لبنان ليست دولة بالمعنى المتعارف عليه عالميا. فكل فريق له دولته. هي أقرب لكونفدرالية: عندك دولة السيد حسن نصرالله للشيعة، ودولة غبطة البطرك نصرالله صفير للموارنة، ودولة الشيخ سعد الحريري للسنة، ودولة وليد بيك للدروز، وبينها دول أخرى تصغر وتكبر.
الجيش الذي يشكل العمود الفقري للدولة مجمع عليه نظريا. لكنه عاجز عمليا عن فعل أي شيء، وبدا ذلك في عدوان تموز عندما تهكم عليه شيمون بيريز وقال: أستغرب كيف تملك دولة جيشا من سبعين ألفا، ولا يطلق طلقة في الحرب! وتضاعف عجزه في المواجهات الدخلية بين فريقي السلطة والمعارضة. فحتى يفرض حظر التجوال في بيروت تشاور مع كل القوى السياسية.
يخوض الجيش اللبناني أولى حروبه في مخيم نهر البارد وسط إجماع هش. وسيخرج منتصرا عسكريا في مواجهة غير متكافئة ومحسومة لصالحه ومن دون أي مساعدة أميركية! لكنه سيجد نفسه مستنزفا بعدها في حروب لا قبل له بها. وكان الأكرم له وللبنانيين وللفلسطينيين، أن يتعامل بصبر مع “فتح الإسلام”، تماما كما صبر في عدوان تموز ومن بعده في مواجهات بيروت.
هل تريد التعليق؟