من أسوأ آثار الانقسام الفلسطيني، تحوله من صراع سياسي إلى صراع ثقافي، بحيث يتميز فلسطينيو الضفة، وهم تحت الاحتلال، عن فلسطينيي غزة، وهم تحت الاحتلال ذاته، إلى شعبين بهويتين ثقافيتين مختلفتين.
صحيح أن من يقولون بالصراع الثقافي مع حماس أقلية، إلا أنها متنفذة ولها اليد العليا في القرار.
قد يرد على ذلك بأن المسألة صراع سياسي، وأن الضيق بالآخر شمل حتى قيادات فتح التي اختلفت مع عباس، وليس أدل على ذلك مما حاق بنبيل عمرو الذي ظل الذراع الإعلامية الضاربة لحركة فتح، والذي كشف في رده على إبراهيم أبو النجا ضيق السلطة به ومنعه من الكتابة والظهور التلفزيوني. يقول عمرو: “سأظل في الميدان أقول الحقيقة رغم محاولة سلطة بكاملها محاصرتي، سواء بمنعي من الكتابة حتى في الصحيفة التي أسستها، مع منعي بقرار رسمي من الظهور على شاشات التلفزيون”، لافتاً النظر إلى إجراء السلطة اتصالات مع فضائيات عديدة كي لا يظهر على شاشاتها.
وظيفة السلطة الأساسية حتى وفق منظورها هي تحرير الأرض بالمفاوضات. وهذا يتطلب تجنيد الشعب في الداخل والخارج لخوض المعركة من دون استخدام السلاح.
لنتفق لغايات الجدل مع مقولة المقاومة السلمية، وهو ما ميز انتفاضة عام 1987 ، تلك الانتفاضة التي وصفتها الايكونومست في حينها بأنها “انتفاضة المساجد”. طبعا الشعب الفلسطيني منوع وفيه فصائل وأفراد غير متدينين وغير مسلمين، لكن يظل المسجد في المنطقة العربية رأس الحربة في مقاومة الاستعمار. فلماذا تحاول السلطة اليوم تجفيف منابع المساجد؟
فهي قامت بإجراءات تمس دور المسجد ليس في مقاومة الاحتلال فقط، وإنما في دوره الاجتماعي والثقافي، فهي ترفض تعيين أئمة وخطباء ومؤذنين وخدّام لنحو ألف مسجد في الضفة، وترفض تعيين موظفين جدد مكان كل من ينهي خدمته الوظيفية. ولجأت إلى الخطبة الموحدة، وهو غير مسبوق عربيا، فهي تعد الخطبة وتعاقب من يرفض ذلك من الخطباء، وهو ما يؤكد سياسة تسييس المساجد وتوجيهها بما يوافق هوى “سلطة فتح”.
منعت الشيخ حامد البيتاوي خطيب المسجد الأقصى ورئيس رابطة علماء فلسطين والشيخ نايف الرجوب وزير الأوقاف السابق، ومئات العلماء من ذوي الكفاءة والتأثير، من الخطابة في المساجد كما منع العلماء والدعاة والغيورون على دينهم ووطنهم وشعبهم، من إلقاء الدروس والمواعظ الدينية، ومحاسبة كل إمام مسجد يلقي موعظة في مسجده. مقابل ذلك عينت وعاظا غير مؤهلين لا يحملون إلا الثانوية العامة على أحسن تقدير وهو ما يزيد النفور عند الناس.
وأغلقت السلطة مئات مراكز ودور تحفيظ وتجويد القرآن الكريم، والتي خّرجت آلاف الحفظة لكتاب الله عز وجل من الذكور والإناث، وفصلت الكثير من الأئمة والخطباء لأسباب سياسية ولرفضهم سياسة حكومة فتح، واستدعاء كل خطيب أو واعظ يمس هذا الواقع. ووضعت عقبات وعراقيل أمام بناء المساجد، وذلك بتأخير موافقة “وزارة أوقاف الضفة” على تشكيل لجان بناء المساجد باشتراط موافقة أجهزة أمن فتح على أعضاء هذه اللجان، والتي تستمر لسنوات طويلة في كثير من الأحيان.
إضافة إلى إغلاق المساجد بعد كل صلاة ومنع الأنشطة المسجدية التي اعتاد الناس عليها، كالإفطارات الجماعية في شهر رمضان المبارك، وكذلك إحياء المناسبات الدينية، وخفض صوت الأذان في المساجد. كان أولى بالسلطة، التي تعرف أن لا أفق في التفاوض المباشر وغير المباشر، أن تستغل الشهر الكريم لطي صفحة الانقسام، فرمضان، قرآنا ومساجد وغيرها من مظاهر ثقافية وحدت شعب فلسطين وميزته عن محتله وحالت دون ذوبانه فيه. الآخر، ثقافة وسياسة، هو الصهيوني، وهو آخر معادٍ؛ العلاقة معه تقوم على الصراع، لا التعارف والتعاون والتشارك.
هل تريد التعليق؟