من يشاهد الحلقات التي تقدمها جازيل خوري على شاشة العربية عن سمير جعجع قائد القوات اللبنانية لا يملك سوى التعاطف مع “الحكيم” وما يمثله. فقوة الصورة تطغى على أي تفاصيل فيها نقد أو اتهامات لواحد من زعماء الحرب الأهلية. فالحكيم بدا في زنزانته وتفاصيلها كثير الشبه بنلسون مانديلا الذي أمضى زهاء ربع قرن في زنزانة قبل أن ينجح في تحطيم نظام الفصل العنصري، تماما كما نجح صمود الحكيم في تحطيم نظام الوصاية السوري الدموي (وكل له ما شئت من شتائم).
غير أن ما بدا من سحر الكاميرا وما رافقها من مؤثرات صورية وموسيقية غير ما هو حقيقة. شاهدت حلقتين في إحداهما تتقد ذاكرة الحكيم وتفتح الستارة على مشهد طفلة حافية تقفز كما فراشة جذلانة فرحة ما قيدها ماء السماء المنهمر، ولا قذائف الحرب الأهلية التي كانت أيامها تنهمر كما المطر. المشهد هز الحكيم وما يزال، وفي داخله تساءل واستنكر كيف تحرم الحرب الأطفال حياتهم وبهجتهم.
لست بوارد الدخول في تفاصيل الاتهامات التي وجهت لسمير جعجع أو “الحكيم” بحسب ما يطلق عليه أنصاره. فتلك التفاصيل مثل تفاصيل أي حرب أهلية يستحيل التدقيق فيها. ولكن صعوبة التدقيق لا تبرئ المتهمين في تلك الحروب. وعندما سألته جازيل خوري إن كان سيشعر بالعدالة لو وجد في الزنازين المجاورة باقي قادة الحرب نبيه بري وعون وغيرهم أجاب بالرفض. واستنجد بالتاريخ ليثبت أنه كان ضحية للحرب الأهلية لا واحدا من قادتها.
نهاية الحرب الأهلية كانت تتطلب العفو عمن ارتكبوا الجرائم. وهذا صحيح، فلو لم يكن الطائف لاستمرت الحرب إلى يومنا هذا. غير أن الخطأ التاريخي الذي ارتكبه اللبنانيون أنهم تعاملوا مع الجرائم وكأنها لم تكن قانونيا وسياسيا وأخلاقيا. كان عليهم أن يطبقوا مقولة نلسون مانديلا “نغفر ولا ننسى”. كان على المجتمع المدني أن ينبري لتوثيق الجرائم للتاريخ.
جعجع ليس حكيما ولو كان حكيما لما ارتكبت “القوات اللبنانية” التي كان واحدا من أبرز قادتها جرائمها المعروفة. تماما كما أن قادة الحرب الأهلية الآخرون المتصدرون إلى اليوم المشهد السياسي غير حكماء. لو كانوا حكماء لاعتزلوا السياسة وتابوا حقيقة عما فعلوا وأمضوا باقي عمرهم في جمعيات خيرية مثل جمعيات نزع الألغام ورعاية ذوي الاحتياجات الخاصة.
القوات اللبنانية هي من نفذت مجزرة صبرا وشاتيلا. لا خلاف ولا شك في ذلك. ربما كان الحكيم يومها في إجازة أو كان في قاطع آخر أولا يعلم حتى اليوم ما حصل وأن المسؤول الأول هو إيلي حبيقة بالتعاون مع شارون. ذلك لا يلغي المسؤولية الأخلاقية لقادة القوات عن مجزرة كان من ضحاياها كثير من الأطفال يشبهون الطفلة التي ترقد في ذاكرة الحكيم وهي ترقص تحت المطر.
قادة الحرب ليسوا شياطين، فيهم جانب إنساني، لكن ما المصلحة في تسليط الضوء على إنسانيتهم اليوم؟ في عالمنا العربي الذي يعاني من حروب أهلية قائمة وقادمة، يجدر التركيز على إنسانية الضحايا. لولا أني زرت مقبرة صبرا وشاتيلا، وهي بالمناسبة منسية مهملة، لتعاطفت مع الحكيم. فقد أمضيت ثمانية وأربعين ساعة في زنزانة إنفرادية (في اعتقالين منفصلين) كدت أن أكتب مذكراتي بعدها، فكيف بمن أمضى أحد عشر عاما!
“الحكيم في زنزانة” كان محظوظا قياسا بمن تملأ قبورهم عرض البلاد وطولها. وبمن لم ينعموا حتى بقبر وظلوا إلى اليوم على قوائم المفقودين.
هل تريد التعليق؟