لم يعرف الأردن ثقافة الأنظمة الشمولية التي تجند المجتمع في خدمة مشروع الدولة السياسي. ليس عندنا “السيطرة الغامضة” كما في النظام السوري الذي يستطيع حتى قبل انهياره بدقائق حشد مسيرات الولاء. وفي ليبيا، تبين أن نظام العقيد قد سجل مسيرات ولاء في”الساحة الخضراء”، وظل يبثها باعتبارها حية على الهواء إلى لحظة سقوطه. ظلت العفوية تحكم علاقة النظام الأبوي بالناس.
في جيلي، وقد درست في مدارس وجامعات حكومية في ظل الأحكام العرفية، لم يسبق أن سُخرنا للمشاركة في احتفالية وطنية؛ كانت المشاركة عفوية وطبيعية. اليوم، نشاهد كتبا رسمية صادرة عن مديريات حكومية تؤطر الطلبة للمشاركة في مسيرات الولاء. وبنفس الوقت، تسخر إمكانات الدولة لانتقاد “الحراكات” التي تعطل السير وتشغل الناس عن أعمالهم، مع أنها تجري يوم الجمعة!
لقد فككت الباحثة ليزا وادين، في أطروحتها للدكتوراه، نظام البعث القائم على “السيطرة الغامضة”. وهذا نظام انتهى، وشُطب من وجدان شعبه ومن الخريطة الدولية، ويعيش في حماية إيران، وسيلاقي مصير القذافي أو علي عبدالله صالح في أحسن الأحوال. ويجب أن تدرس تجربته حتى لا تتكرر. في النظام الملكي ضمانة الاستقرار والإجماع؛ الملك لا يخضع للانتخاب والاستفتاء، ولذا لا تنعقد له مسيرات تُدخله في السجال السياسي.
لنستفد من التجربة المغربية الناجحة التي سبقتنا، مع أن منسوب الفساد والاستبداد في المغرب أعلى من عندنا. مع حركة “20 فبراير” في أجواء الربيع العربي، استفزت أجهزة الدولة، وبدأت بمسيرات الحب للملك. وبلغ الانفعال إلى درجة تنظيم مليونية في الدار البيضاء. وبعد أن سجل أكثر من 300 ألف للمشاركة، ألغيت بقرار حكيم؛ فالملك يجب أن يظل خارج السجال السياسي، ولا يخضع لحسابات الأكثرية السياسية والحضور الشعبي. بحسبة دقيقة، لم يصل الحراك الشعبي إلى مرحلة تجاوز “الخطوط الحمر” إلا بعد أن تمت ممارسة البلطجة. ومن يمارسون البلطجة يرفعون صور جلالة الملك، وعلى شبكة الإنترنت يمكن مشاهدة كثير من الفيديوهات التي تثبت ذلك.
يمكن لوزراة التربية أن تشغل الطلبة بمسيرات ولاء حقيقية، يقومون فيها بخدمة مجتمعاتهم. لماذا لا يتحرك هؤلاء الطلبة لتنظيف الغابات والمواقع الأثرية التي أصبحت مكاره صحية؟ لماذا لا يقومون بتشجير الصحراء؛ بحملات توعية من حوادث السير والتدخين والمخدرات؟ يوجد خلل خطير في مفهوم الولاء، فهو لا يعني مطلقا الأهازيج والهتاف ورفع الشعارات والصور، إنه يعني أن يكون الولاء للوطن لا لمصلحة شخصية أو فئوية أو جهوية. كم من مدع للولاء يتوقف المفهوم عنده على حجم عمولته في صفقة، أو تأمين خدمات سخيفة لجماعته. وهؤلاء ينقلب الولاء لديهم إلى عداء وبراء مع أول خسارة للموقع أو المنفعة الخاصة.
التظاهر السياسي حق مشروع كفله الدستور لكل صاحب وجهة نظر. نفهم أن يدعو نواب أعطوا الحكومة ثقتهم إلى مظاهرة تؤيد سياستها في قانون الانتخاب أو رفع الأسعار، ولكن ذلك لا يمنح الحكومة حق استدعاء طلبة المدارس أو موظفي مؤسسة حكومية للمشاركة في مسيرة موالية لها. لم يتظاهر أحد ضد العرش؛ التظاهرات كانت وتظل ضد الحكومات، وها هي تتغير. ومن الممكن أن يشارك رؤساء الحكومات الذين عاصروا الحراك، من سمير الرفاعي إلى عون الخصاونة، في مظاهرات ضد حكومة فايز الطراونة، تماما كما شارك أحمد عبيدات في مظاهرات الحراك من قبل. هكذا ببساطة، ولا داعي لافتعال الولاء!
هل تريد التعليق؟